محمد حسين أبو الحسن
في خطوة مفاجئة، تنذر باتساع عواصف الخطر فوق حوض النيل وثقل الأدوار الإقليمية والدولية فيه، صادق برلمان جنوب السودان بالإجماع على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل المعروفة بـ"اتفاقية عنتيبي"، ما يفتح الباب لدخولها حيز التنفيذ يوم 6 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، فلماذا انتظرت جوبا 14 عاماً حتى تغيّر موقفها؟ وماذا تفعل القاهرة المأزومة اقتصادياً والخرطوم المنهارة سياسياً وعسكرياً إزاء تلك العواصف؟! فيضان التوترات يعد النيل أطول أنهار العالم، يمتد مجراه 6700 كيلومتر، يغطي ثلاثة ملايين و349 ألف كيلومتر مربع، بمتوسط تدفق 300 مليون متر مكعب يومياً. يمر بـ 11 دولة، من قلب إفريقيا حتى البحر المتوسط: بوروندي ورواندا والكونغو الديموقراطية وتنزانيا وكينيا وأوغندا وإريتريا وجنوب السودان وإثيوبيا والسودان ومصر، ينشر الخير والنماء والحضارة على ضفافه، لكن حوض النيل أصبح مؤخراً مهيأ للاشتعال؛ تفيض فيه التوترات الجيوسياسية بين دول المنابع ودولتي المصب السودان ومصر، نتيجة الخلافات حول الحصص المائية. توقع "جيوبوليتيكل مونيتر"، الموقع المتخصص في تحليل القضايا السياسية والعسكرية والاقتصادية حول العالم، تصاعد الصراعات بين دول الحوض، بعد اتفاقية عنتيبي. يعود تاريخ اتفاقية عنتيبي إلى عام 1999، عندما قامت دول النيل بإنشاء مبادرة حوض النيل؛ من أجل تدشين إطار للتعاون يتضمن مبادئ ومؤسسات مبادرة حوض النيل، بدعم من البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وعدة جهات مانحة. استمر التفاوض بين دول النيل عشر سنوات، وفي 14 أيار (مايو) 2010 وقعت إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، ثم انضمت إليها كينيا وبوروندي. وفتح البرلمان الإثيوبي الباب للمصادقة على الاتفاقية في حزيران (يونيو) عام 2013، ثم تبعتها على مدى سنوات رواندا ثم تنزانيا وأوغندا وبوروندي، حتى صادق عليها برلمان جنوب السودان؛ ليرتفع عدد الأعضاء المصدقين إلى 6 وتدخل الاتفاقية حيز التنفيذ، في انقلاب استراتيجي للمعادلات الراسخة على شاطئ النهر، لأول مرة منذ بدء الخليقة. يوم لإثيوبيا إثيوبيا القائد والدافع الإقليمي للمبادرة رحبت بشدة. اعتبر آبي أحمد رئيس الوزراء أن دخول "عنتيبي" حيز التنفيذ "يوم تاريخي" لإثيوبيا. بالطبع يحق لأديس أبابا أن تعتبر الأمر انتصاراً تاريخياً؛ تنطوي الاتفاقية على تغيير غير مسبوق في إدارة وتقاسم مياه النيل، تؤسس "مفوضية حوض نهر النيل"، ولا تعترف بمبدأ "الحقوق التاريخية" الذي تعتمد عليه مصر والسودان في الحصول على حصصهما المائية: 55.5 مليار متر مكعب لمصر، و18.5 ملياراً للسودان. وتستبدل ذلك بما يسمى "الاستخدام المنصف أو المعقول"، بمعنى أن لكل دولة بحوض النيل الحق في استخدام مياه النهر داخل أراضيها. لم تضع الاتفاقية أي ضوابط لمنع الإضرار بدولتي المصب، وألغت شرط "الإخطار المسبق" أو "موافقة دولتي المصب" بشأن أي مشروعات على مجرى النهر.
يخلق دخول الاتفاقية حيز التنفيذ اضطرابات حادة بحوض النيل المتخم بالمشكلات والخلافات بين شعوبه ودوله، مع اختلاف مواقفها بشأن النظام القانوني الحاكم للنهر؛ من ثمّ تعارض مصر والسودان "اتفاقية عنتيبي"، وتتمسكان باتفاقيات "مياه النيل" 1902 و1929 و1959، أي بما تعتبرانه
استخدامات تاريخية وحقوقاً مكتسبة في مياه النيل، وتطالبان بإدراجها في الاتفاقية، حفاظاً على "الأمن المائي" للبلدين اللذين يقعان في نهاية المجرى؛ ما يجعلهما في وضع "ضعف جيوستراتيجي" من صنع الجغرافيا. لكن دول المصب تكتلت معاً ورفضت الاعتراف بالحقوق المكتسبة عبر التاريخ لمصر والسودان، ورفعت شعار "الاستغلال المنصف والمعقول"؛ ما ينطوي على إضرار كبير بالتدفقات إلى الخرطوم والقاهرة.
المخاوف المصرية والسودانية تبدو مبررة، قد تفقدهما اتفاقية عنتيبي "الحصص التاريخية" في النيل، وإحكام دول المنبع سيطرتها عليه، وانخراطها في إنشاء مشروعات مائية جديدة دون علم أو موافقة مصر والسودان، ولا سيما أن جهات إقليمية ودولية كثيرة تخطط لذلك بدأب وتوفر الخبرات الفنية والتمويل. حتى لو تعارض ذلك مع القوانين الإقليمية والدولية التي تنظم حق الانتفاع بالأنهار المشتركة أو العابرة للحدود بين الدول، مثل النيل.
الصمت المصري والسوداني لم يصدر أي تعليق رسمي من الحكومتين المصرية أو السودانية على مصادقة جنوب السودان على الاتفاقية في 8 تموز (يوليو) الجاري، لكن المؤكد أن الدولتين ليستا سعيدتين بالمرة بما أقدمت عليه جنوب السودان، انصياعاً لضغوط إثيوبية وإسرائيلية وأميركية، ومن بعض دول الشرق الأوسط. أفقدت الحرب الدائرة في السودان الخرطوم القدرة على اتخاذ أي موقف مؤثر تجاه جوبا، التي اغتنمت انشغالها بالحرب لتفاجئها بما يزيد أوجاعها، بينما تبدو القاهرة في حالة صدمة، كأنها لم تتوقع ما حدث، في ظل علاقاتها الوطيدة مع جوبا، وتقديمها مساعدات تنموية كبيرة لجنوب السودان؛ لهذا يضيف تصديقها على اتفاقية عنتيبي كابوساً جديداً إلى كوابيس مصر التي تعاني أزمة اقتصادية طاحنة، وتحيط بها بؤر النار شرقاً في غزة وغرباً في ليبيا وجنوباً في السودان وشمالاً في المتوسط. انحاز نظام الرئيس سلفا كير إلى واشنطن وتل أبيب وأديس أبابا؛ لأنها تزوده بخدمات استخباراتية وعسكرية "تحافظ على بقائه في السلطة"؛ ما جعله يتجاهل ردود الفعل المصرية والسودانية، ويتحلل من الاتفاقيات القديمة الملزمة له، عندما كانت جنوب السودان ضمن دولة السودان قبل الانفصال، ما ينذر بشروخ في علاقات جنوب السودان مع البلدين.
ووسط حالة الصمت الرسمي المصري، رأى محمد نصر علام وزير الري الأسبق أن بعض دول الحوض، وبتوجيهات دولية تحاول خلق حالة قلق دائمة، خاصة لمصر؛ لأنها تعتمد كلياً على النيل، وأن مبادرة عنتيبي أخطر محاولات الالتفاف من الغرب، لدفع دول الحوض إلى التوافق على إلغاء الاتفاقيات التاريخية والحصص المائية لمصر والسودان وإعادة توزيعها، ووضع مصر تحت مقصلة الغرب. بيد أن علام أكد أن تصديق جنوب السودان لن يغير الوضع، أو يمنح دول المنبع الحق في فرض قرارات أو إجراءات تضر بمصر والسودان؛ الاتفاقية وُلدت ميتة، وما زالت ميتة، مبيناً أن هناك معركة قانونية وسياسية طويلة تنتظر دول المنبع، لكي تصبح الاتفاقية واقعاً معترفاً ومعمولاً به.
الحقيقة الوحيدة الظاهرة أن ألاعيب السياسة تدفع باتجاه التصادم والعداء في بلاد النيل، بكل ما لذلك من نتائج مأسوية. وذاك حديث آخر.