راغب جابر
ليست حرباً عالمية معلنة لكنها في الواقع كذلك، يكفي أن تكون أميركا وروسيا وأوكرانيا وألمانيا وإسرائيل وإيران ومعظم أوروبا منخرطة فيها، بعضها مباشرة وبعضها الآخر غير مباشرة، لتكتسب صفتها العالمية، وأن تكون ساحتها ممتدة من شرق أوروبا إلى الشرق الأوسط. الحربان على جبهة روسيا - أوكرانيا وعلى جبهة الشرق الأوسط هما جبهة واحدة في العمق، وتلقائياً تتقارب الجبهتان وينقسم العالم إلى محورين: محور الغرب ومحور الشرق
ليحلا محل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أيام الحرب الباردة.
لا تخوض أوكرانيا الحرب وحدها ضد روسيا، ولا هي قادرة على ذلك، الغرب كله يخوض هذه الحرب بكل أسلحته وتكنولوجيته وماله. مئات مليارات الدولات أنفقتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على تمويل أوكرانيا ومدها بالسلاح المتطور. أفرغت الدول الأوروبية مستودعاتها من الطائرات والدبابات والعربات والصواريخ والقذائف، وحوّلت مصانع كثيرة للتصنيع العسكري. بالطائرات والقطارات أقامت طرق إمداد لا تتوقف عن تزويد فلوديمير زيلينسكي بكل ما يحتاجه من سلاح. كل التقارير عن وقف المساعدات أو تقليصها ليست إلا كلاماً للاستهلاك الإعلامي وللتضليل، المعركة بالنسبة إلى هذا الغرب هي معركة مصير ولن يقبل خسارتها بأي شكل من الأشكال.
ليس التوغل الأوكراني في الأراضي الروسية في كورسك إنجازاً أوكرانياً خالصاً، بالكاد تستطيع أوكرانيا الصمود في مواقعها على خطوط التماس داخل أراضيها، وقد فشل هجومها المضاد الذي روّج له الغرب كثيراً فشلاً ذريعاً. هذا التوغل هو ضربة قوية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس معروفاً بعد كيف سيكون رده عليها وهل ينجح في تحرير أرض روسية محتلة بالقوة أم يضطر للتفاوض والمقايضة؟ هذا متروك للأيام، لكن المهم في هذا الخرق أنه يؤشر إلى انخراط غربي أكبر في الحرب الأوكرانية.
الدبابات التي اخترقت الحدود الروسية هي دبابات أميركية وألمانية من أحدث الطرز وأكثرها دقة وفاعلية، وبالتأكيد فإن الاستخبارات الغربية لعبت دوراً أساسياً في تجميع المعلومات وسبر نقاط الضعف في الجبهة الروسية. إنها الأقمار الاصطناعية الأميركية والغربية التي وفرت للجيش الأوكراني الصور والمعلومات على مدى شهور طويلة وإلا لما كان للجيش الأوكراني المنهك أن يصحو فجأة ويتحول من قوة دفاع تعاني الأمرّين إلى قوة هجوم تحتل عشرات القرى الروسية وتقترب من منشآت الروس النووية.
يذكر الدفرسوار الأوكراني بالدفرسوار المصري خلال حرب تشرين 1973 الذي لعبت الاستخبارات الأميركية دوراً مهماً فيه عبر تزويد إسرائيل بالصور والإحداثيات والتقارير عن وضع الجيش المصري الثالث في الإسماعيلية وإمكان إحداث خرق فيه عبر قناة السويس في منطقة غير محمية حماية كاملة، بعدما كانت أقامت جسراً جوياً يعمل ليل نهار لنقل الأسلحة والذخائر إلى أسرائيل لمنع مصر وسوريا من تحقيق انتصار، بل حتى لجعلهما تخسران الحرب التي أدت في ما أدت إليه إلى خروج مصر من الصراع مع إسرائيل وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن في عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر.
الغرب نفسه الذي يخوض الحرب ضد روسيا في أوكرانيا ويحشد لها المال والسلاح ويعد العدّة سراً وعلانية للانخراط فيها مباشرةً عندما تدعو الحاجة، يخوض حرب الشرق الأوسط، والحرب على غزة تحديداً. ليست إسرائيل وحدها من تحارب في غزة، أميركا جو بايدن (أو إدارة أخرى سواء أكانت ديموقراطية أم جمهورية ستفعل الشيء نفسه) منغمسة في هذه الحرب حتى أذنيها، طائراتها وصواريخها وقنابلها الثقيلة والموجهة هي التي تقتل وتدمر وترتكب المجازر، وأساطيلها وبوارجها وحاملات طائراتها هي التي تحمي إسرائيل وتوجه الإنذارات إلى إيران وجماعاتها من اليمن إلى العراق ولبنان. ورغم كل الضجيج في الشوارع والاحتجاجات في المدن الغربية واستيقاظ الحس الإنساني لدى شرائح واسعة من الشعوب الإوروبية والإميركية، ما زال القرار السياسي الغربي مؤيداً لإسرائيل، وهذا يؤشر إلى طبيعة الارتباط الأيديولوجي الاستعماري لهذا الغرب الذي ما زال يعتبر إسرائيل قاعدة متقدمة له في الشرق الأوسط وعلى طريق الشرق الأقصى.
لا يتغير الغرب بزعامة الولايات المتحدة، لا تهتز مشاعره كثيراً، هو ليس عاطفياً إلى هذا الحد، إنه صاحب أيديولوجيا مغرقة في تاريخيتها رغم كل الحداثة، في لا وعيه "مجد" سيطرة واستعمار وفي ذاكرته صور مكرسة عن العوالم الأخرى بناها غزاته ومستشرقوه الذين سماهم مستكشفين وما هم بمستكشفين بل غزاة محتلون، عوالم لا ترقى إلى عالم القيم التي أرساها ولا إلى الحضارة التي أنشأها.
هي حرب واحدة من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط يخوضها الغرب مجتمعاً ضد أطراف تبدو متفرقة لكنها قد تجتمع إذا طالت الحروب المتباعدة لتصبح الحرب الضمنية حرباً عالمية معلنة.