بدعوة من رئيس مجلس إدارة دار عنيزة للتراث بمحافظة عنيزة المهندس حمد بن محمد الهطلاني، شاركت في إحدى الجلسات الحوارية التي نظمها (ملتقى الفنون الشعبية - سامري عنيزة)، للحديث عن الجانب التاريخي لنشأة فن السامري بشكل عام وسامري عنيزة بشكل خاص. حيث يقوم فن السامري بشكل عام على الشعر الشعبي، وقد اختلف المؤرخون حول بداية الشعر الشعبي في الجزيرة العربية. إلا أن المؤرخ عبدالرحمن بن خلدون يرى أنه بدأ عام 808هـ على يد بني هلال، وقد أشار إلى ذلك الدكتور طه حسين في كتابه «الحياة الأدبية في الجزيرة العربية»، قائلًا إنه كان يوجد في الجزيرة العربية أدبان: الأدب العربي الفصيح والأدب الشعبي. وقد تناول عبدالله بن خميس الأدب الشعبي في كتابه «الأدب الشعبي في جزيرة العرب»، حيث يرى أن الأدب الشعبي امتداد للأدب العربي الفصيح، وكانت بدايته حين اعترى الأدب العربي حالة الركود. وقد توارثت الأجيال الشعرية الشعر الشعبي، فقد كان كل جيل يأخذ من الجيل الآخر. وفي النصف الأخير من القرن الثاني عشر الهجري، جدد الشاعر محسن بن عثمان الهزاني أوزان الشعر الشعبي ونظم أبياتًا على طرق السامري، وقد وجدت إقبالًا وانتشارًا واسعًا في منطقة نجد، ومنها انتقلت إلى منطقة الخليج العربي، وجاء من بعده الشاعر محمد بن لعبون الذي طور فن السامري وأدخل عليه إضافات في اللحن والوزن عُرفت بـ (اللعبونيات). وتعددت ألحان وفنون السامري وإيقاعاته، وانتشرت بين رواد فن السامري، حيث أدخلوا عليه بعض الألحان والحركات والتي أوصلت ألحان السامري إلى ثلاثين لحنًا أشهرها اليوم فن سامري عنيزة. فقبل تقريبا 200 عام، كان المغرمون بالسامري يتجهون صوب وادي أبو علي مطوحين أصواتهم على جنبات الوادي وخلال هذا الطريق تحولت السامري إلى النفود المحاذي لمدينة عنيزة، خاصة (مزرعة النقيلية) التي أصبحت في ذلك الوقت ملتقى للسامري، حيث يشيد المولعون بالسامري ألوان السامري: سامري عنيزة، والحوطي والناقوز وسط النقيلية. وتناقلت أجيال عنيزة فن السامري جيلًا بعد جيل، وفي عام 1397هـ تأسست دار عنيزة للتراث الشعبي، وأسسها مجموعة من الشباب المهتمين بالسامري، ورأى كل من عبدالعزيز الخنيني والدكتور إبراهيم الخويطر أن يكون لهذه الدار مقر تؤدي فيه فنونها الشعبية فبادرا إلى التبرع بقطعة أرض مساحتها 6 آلاف متر لإنشاء دار عنيزة للتراث الشعبي. وعلى هذه الأرض وعن طريق التبرعات والهبات والمساعدات العينية والنقدية شيدت دار عنيزة للتراث الشعبي، وفي عام 1441هـ سجلت رسميًا باسم شركة دار عنيزة للتراث تحت مظلة وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، وتتبع للدار أكاديمية لتعليم الفنون الشعبية. وتفرد سامري عنيزة عن غيره من السامريات والفنون الأخرى، وذلك بسبب الآتي: أولًا: الانفتاح الثقافي فمدينة عنيزة تعيش في نمط من الحياة مختلف عن الآخرين، فقد أدركت قيمة الانفتاح الثقافي والحضاري وسارت عليه في كل شؤونها، من خلال تبني خطاب ثقافي تسامحي مستنير، تسوده الشفافية والتلقائية والمرونة الاجتماعية، يتمتع بسعة العقل وشمولية الرؤية ويكرس الإحساس بالقيم. فالانفتاح والتسامح بمعناهما الحضاري والإنساني يتمثلان في دار عنيزة للتراث فإذا كانت الفنون نتاجًا إنسانيًا فإن هذا النتاج الإنساني تراث للبشرية، وفن السامري كغيره من الفنون يتطور تطورًا تلقائيًا بالانفتاح والتسامح. ثانيًا: النظرة الحضارية للفنون ومن بينها السامري وهي نظرة اختصت بها مدينة عنيزة لإيمانهم العميق بالفنون، وهذا سر من أسرار تفوقهم في فن السامري وقد استوعبوا هذا الفن وطوروه وأدخلوه في النسق الثقافي والمجتمعي. ثالثًا: مدينة عنيزة تعتبر معقل السامري فعلاقتها بالسامري تعود إلى 200 عام تقريبا، وكانت على مر السنين في علاقة تفاعلية وحيوية مع فن السامري، وكان السامري أحد أهم عناصر ثقافتها، وتعاظم أثر هذا الفن يومًا بعد يوم، وانتقل من الموهبة عبر تجارب وخبرات تراكمية إلى الكيان المؤسسي والمتمثل في دار عنيزة للثراث. رابعًا: العلاقة العاطفية مع فن السامري وهذا ما جعل عنيزة تدخل في التزام مستمر ودائم برفع نوعية أداء سامري عنيزة من خلال التحسين التدريجي المستمر، ولذلك انفرد سامري عنيزة بلون خاص من بين السامريات في الغناء والإيقاع والحركات والرقصات، حيث يأتي هادئًا سلسًا عذبًا رائقًا وممتعًا. فعنيزة تعتبر قلعة السامري وراعية هذا الفن بشكله الحالي، وقد تمسكت بهذا المبدأ ولازمته على مدى سنين طويلة، وهو فن آخذ في التقدم، يضيف كل يوم جديدًا إلى رصيده الفني. مر سامري عنيزة بمراحل وتراكمات وتجارب فنية تراثية عبر أجيال وسنين طويلة على مدى 200 عام، إذ لم يكن نتيجة لحظة مصادفة. فإذا ما تتبعنا هذا الفن منذ بداياته الأولى على أيدي هواة السامري ومن ثم تحوله إلى كيان مؤسسي ندرك أنه ليس مجرد فن تراثي فحسب، يل تراث وثقافة مجتمع. وقد أثر سامري عنيزة تأثيرًا واسعًا في السامريات الأخرى خاصة في الإبداع الفني. فالاحتفاء بالفنون يعني التأكيد على روح الأمة واستمرارية تاريخها ووصل الحضارة بالزمن، فهذا التراث هو أحد دواوين الثقافة. فتحت لي الدعوة الكريمة التي تلقيتها من دار عنيزة للتراث نافذة واسعة للاطلاع على حضارة وثقافة عنيزة وهي حضارة وثقافة ذات ثراء واسع في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتراثية والفكرية والإنسانية. ففي محافظة عنيزة حياة اجتماعية وثقافية وعلمية راقية، فقد جمعت بين المراكز العلمية والثقافية والمؤسسات التعليمية العريقة والصالونات الأدبية والديوانيات الاجتماعية والملتقيات الإعلامية والمؤسسات الإنسانية ما أسبغ على هذه المدينة الفريدة مدنية راقية، وحسًا حضاريًا فريدًا. فمركز القصيم العلمي نافذة حضارية ومنصة إشعاع علمي لما حواه من كنوز علمية حديثة؛ حيث يضم مختلف العلوم والكشوفات العلمية الحديثة، فهو بحق معقل العلم الحديث، وكنز المكتشفات، فهذا الصرح العلمي والحضاري الكبير كان من نتائج الشراكة ما بين القطاع العام ممثلًا في وزارة التعليم والقطاع الخاص ممثلًا في مجموعة الزامل القابضة. يضم المركز واحة عبدالله حمد الزامل وأكاديمية محمد الحمد الشبيلي العلمية وبإدارة فعالة من المشرف العام على المركز أحمد بن عبدالله الشبل، والذي كرس وقته للمركز منذ أن كان فكرة. ويحظى مركز القصيم العلمي بعناية ورعاية من محافظ عنيزة عبدالرحمن بن إبراهيم السليم، تلك الشخصية الفذة التي تتحلى بالنبل الإنساني الرفيع، وتتصف بالمبادرات والمواقف المضيئة. أحدث تحولًا حضاريًا نوعيًا في حياة عنيزة الحديثة وقام بدور بارز في تجديد مجتمع عنيزة الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ونقلَه إلى آفاق بعيدة. فقد كان عبدالرحمن السليم إنسانًا متواضعًا كريم الخلق رحب الصدر سمح النفس يتحلى بشخصية قيادية فريدة ينظر بعقل منفتح ويفتح آفاقًا جديدة للتطوير، قدّم نجاحات باهرة ومكن محافظة عنيزة من الوصول إلى الريادة والتميز. وكان يقف إلى جانبه وكيل المحافظة سعد السليم، والذي يقدم ما لديه بصدق وأمانة وكان الذراع الأمين للمحافظ، شارك بفعالية وبأدوار بارزة وله حضوره الواسع في المواقف والمبادرات المجتمعية والإنسانية ما جعل منه شخصية متميزة في أدواره ومواقفه ومبادراته، فقد نقلا في توجهاتهما أفكار الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز، والتي كانت بمثابة خارطة طريق لمحافظة عنيزة.
واليوم دخلت محافظة عنيزة مرحلة جديدة حيث حققت تمدنًا وتحولًا نوعيًا باهرًا في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفنية والتعليمية والحضارية والإنسانية. فالأمير الدكتور فيصل بن مشعل يمتلك رؤية واضحة واستشرافًا مستقبليًا لما سوف تكون عليه النتائج فقد كان يريد لمنطقة القصيم أن تكون على أفضل صورة والمكان الملائم للنجاح، هذه التطورات التي شاهدناها ورصدناها تعطي انطباعًا واضحًا أن القصيم تخطط للغد، وأن رؤية 2030 انطبعت في ذهنية وذاكرة المنطقة فصارت القصيم عالمًا جديدًا.
فعندما ننظر للمشروعات الكبيرة والحيوية والمنجزات الحضارية والإمكانات والآمال والمطامح اللا محدودة ندرك حجم التبدلات والتغيرات المتسارعة والمتتابعة والتي غيرت وجه المنطقة وحققت تمدنًا وتحولًا نوعيًا على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والثقافية والحضارية والإنسانية. فالأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود رجل نهضة وشخصية قيادية مفكرة وفعالة تتملكه رؤية واضحة ونهج رصين يتميز بالرؤية العلمية الواسعة والتوازن المنهجي والحس الحضاري.
حظيت في زيارتي لمحافظة عنيزة بفرصة نادرة للالتقاء بشخصيات اقتصادية واجتماعية وعلمية وثقافية وأكاديمية وأدبية. فقد كان التنوع حاضرًا في هذه المحافظة الرائعة فعندما نقف على مركز القصيم العلمي أو جمعية تأهيل للخدمات الإنسانية أو واحة وفاء لكبار السن أو جمعية طهور أو بيت البسام التراثي أو سوق المسوكف أو جادة النخيل أو مشروع الملوحي أو مزرعة فهد العوهلي النموذجية أو دار عنيزة للتراث أو ملتقى عنيزة الإعلامي أو جمعية عنيزة للتنمية والخدمات الإنسانية نقف على إنجازات باهرة بكل المقاييس؛ فقد كان التفاعل الاجتماعي والحضاري الإنساني حاضرًا في هذه المدينة الزاهية فالتوسع الذي شهدته عنيزة يحمل طابعًا عصريًا.
ما يلفت انتباهك في مدينة عنيزة، ثقافة الاحتفاء ومبادرات التكريم، فعنيزة مدينة مضيافة، ترى في كل مكان المناسبات التكريمية والمآدب الرسمية والاحتفاءات الاجتماعية. فقد رسخت مدينة عنيزة ثقافة المجالس المفتوحة والديوانيات الكبيرة، حيث تقوم باستضافة الوفود والزائرين لمحافظة عنيزة، فقد استضافتنا ديوانية نزار الحركان ومزرعة فهد العوهلي النموذجية وديوانية الفهد في مقر دار عنيزة للتراث وديوانية عبدالرحمن الغرير وحايط حركان. ولذلك لا بد من الاعتراف بأن محافظة عنيزة أحالت العلاقة بين التقليد والحداثة إلى تفاعل خلاق، وقدمت مفهومًا جديدًا للإنسان المتطور والفعال، وأحدثت تأثيرًا نوعيًا في الوعي أتاح للحياة أن تتدفق من جديد، ولكل فكرة أن تأخذ مداها في التطلع لما هو أحدث منها.