من بين أجمل الأوقات التي أمضيتها في عمّان، أثناء عملي في جريدة «الدستور»، كانت تلك الصباحات أو الضحويات البطيئة، متنقلاً من كشك إلى كشك آخر للكتب المستعملة الممتدة على طول شارع سقف السيل، بالقرب من سوق الثياب والأثاث المستعمل في ذلك الشارع الشعبي الذي يحبه الكثير من الشعراء، فقد كانوا يجدون كتباً رائعة نادرة، وبعضها لم يطبع مرة ثانية منذ الخمسينات والستينات من القرن العشرين.
هناك وجدت «الحمار الذهبي»، مثلاً، وقصائد مجهولة لماو تسونغ، الزعيم السياسي الصيني الذي كان يكتب الشعر، وبحثت جاهداً عن شعر كان يكتبه الطغاة أو أشباههم مثل نيرون الذي قيل إنه كان يعزف على القيثارة.
يبحث الفضوليون من هذا النوع، عن كتب قديمة لو وجدوها واحتفظوا بها كتاباً فوق كتاب، لكانت ثروة مثلها مثل اللوحات النادرة، غير أن البعض كان يبحث عن القمصان والأحذية القديمة، وبنَاطِيل الجينز العتيقة في السوق المحاذي لأكشاك الكتب.
ذكر لي أحد الشعراء، أنه وجد ذات يوم حذاءً رائعاً، كما وصفه آنذاك، وحين سأل البائع عن السعر تفاجأ بالمبلغ الكبير لقاء حذاء مستعمل، لكن البائع قال له: لا تستغرب، فهذا الحذاء هو حذاء خروتشوف الذي ضرب به طاولة الاجتماعات في هيئة الأمم المتحدة، وإن لم يكن الحذاء نفسه، فإنه يشبهه على الأقل.
شاعر آخر قال إنه اشترى قميصاً مصنوعاً من الكتّان، وفرح به، وارتداه في الحال، بل قال إنه نام بالقميص ليلته تلك، ولكنه لم ينم، فقد كانت ليلة كوابيس من ساعة إلى ساعة في ذلك النوم الذي يشبه العقاب، فقد سيطر الوسواس على الشاعر تماماً حين أخذ يتخيل أن القميص يعود إلى رجل ميت، وها هي الآن روح الرجل تعاقب الشاعر الذي استولى على القميص..
قد تغسل ثياباً مستعملة مرة ومرّتين، لكي تتخلّص من ذاكرة أولئك الموتى أو الأحياء الذين ارتدوها قبلك، ولكنك لا تستطيع أن تغسل كتاباً مستعملاً، لأنك بالفعل تعشق من كل قلبك تلك الذاكرة لمؤلف الكتاب، وتعشق أيضاً ذاكرة كل من قرأ الكتاب قبلك.
بالتدريج، تأخذك فكرة غسيل الثياب المستعملة إلى فكرة شريرة هي غسل الأموال، وللمفارقة، وجد أحد مرتادي أسواق «البالة» ورقة نقدية من فئة المئة دولار في جيب معطف مصنوع من فراء الثعلب، ولكنه لم يغسل المعطف ولم يغسل الدولارات، وكانت تلك الصدفة سبباً كافياً، ليتحوّل صاحبنا ذاك إلى كاتب قصة.
يمكنك أن تغسل الديباج والحرير والدولارات، ولكنك لن تستطيع إلى الأبد أن تغسل كتاباً.