قبل أن ينالني مؤيدو الديمقراطية بالتخوين والشّيطنة، وأنا أحد المؤيدين والمتمنين نجاحها بأُصولها لمصلحة الأوطان لا لخرابها، العنوان ليس لي، مقتبس مِن أدب الشّيخ عبد الله العلايليّ (ت: 1996)، رجل الفكر والدّين، صاحب المواقف والطّرائف، عُرف بموسوعته في المصطلحات «المعجم موسوعة لغويّة علميّة فنيّة»(1954)، توصل إلى إطلاق هذه العبارة مِن الوضع الذي عاشته بلاده. غير أنّ السّبق، بما يقربُ مِن هذه العبارة، لمترجم وناشر ومُشيع نظرية «أصل الأنواع» شبلي شميل(ت: 1917)، بما نشره في «المقتطف»: «فلسفة النّشوء والارتقاء»(القاهرة: 1910).
كان العلايلي وشَميل مِن فضائل لبنان، مع اختلافهما في الاتجاه واتفاقهما على التّنوير. لذا، نالتهم الرّدود الشَّديدة، وحشوها في أذهان العامة ضدهما. فما إنْ كتب العلايلي «أين الخطأ؟» (1978)، حتى ردَّ عليه بعض زملائه مِن رجال الدّين، معتبراً كتابه «سقطة شنيعة وعثرة»(الجوزو، مجلة الأمان، العدد 69). يرى الاثنان، شميل والعلايليّ، أنَّ اتفاق الكثرة - ما يخص العلايليّ- قصد الانتخاب والتّصويت، على أمرٍ أو رأي ما ليس دليلاً على صحته، ولا اتخاذ قرار برلماني، نال موافقة المصوتين، يعني كان صحيحاً، لمصلحة النّاس والوطن، فالمصوتون أجناس، مَن يتبع زعيمه، على الخطأ والصّواب، ومَن يعتبر عقيدة حزبه الأصح، ومَن صوت طلباً لمغنمٍ ومطعمٍ، ومَن هو طبيعته كالماء، لا لون ولا رائحة، مثلما يُقال، فأي حقّ يُنال مِن أفواه هذه الكثرة؟
أما شميل فقصد الكثرة التي واجهته وكتابه المذكور، وهو وإنْ ارتفع سهمه منذ العشرينيات، وخسر إثر الانقلاب الصَّحوي في الثمانينيات وما بعدها، بتبني أطباء وأساتذة فيزياء وكيمياء، صحويون، الرّد عليه وعلى ملهمه تشارلز داروين(ت: 1882)، لكن أعيد للأخير اعتباره، وأعيد لشميل اعتباره أيضاً بقراءة كتابه مِن جديد، فلم يشك المنصف، غير المتلبس بالصحويَّة، أنهما يبحثان داخل هذا الكون لا خارجه.
كتب شميل مواجهاً الحملة الشّعواء ضده: «كن شديد التّسامح مع مَن يخالفك في رأيك، فإن لم يكن رأيه كلَّ الصّواب، فلا تكن أنت كلَّ الخطأ بتشبثك، وأقل ما في إطلاق حرية الفكر والقول، تربية الطّبع على الشّجاعة والصِّدق، وبئس النَّاس إذا قسرا على الجبن والكذب»(فلسفة النشوء والارتقاء 1910). أمَّا عن البرهان على صحة الرّأي بكثرة المؤيدين، فنجده يقول: «الإصابة ليست دائماً في جانب الاجماع، فالكثرة ليست حِجَّة قاطعة، أو هي وحدها برهان القوة، الوحشية والحقيقة ما كانت أدنى إلى الواقع» (نفسه).
فلا تتباهوا بالهتاف والتَّظاهر، وقولوا ما شئتم فلستم بالغين الحقَّ، بكثرتكم، فما هو إلا موسم، ويتشرذم الجمع، لأنه خواء في خواء. أمّا العلايلي فكان مباشراً، في الشّأن السِّياسي والبلاء بديمقراطيات الطّوائف، قال: «فلا تمنعني غرابة رأي- أظنه أنه صحيح- مِن إبدائه، لأنَّ الشّهرة لم تعد أبداً عنوان الحقيقة... لأنَّ الحق لم يعد يُنال بالتّصويت الغبيّ، فالانتخاب لمَن عمل الطبيعة، وهي لا تغالط نفسها، كما لا تعمد إلى التّزوير» (المعجم موسوعة لغوية 1954)، وجعل ذلك شعار(العلايليّ، المعريّ ذلك المجهول).
عند التّصويت «الغبي» وتصويت «المتذاكين» تظهر الدّيمقراطيّة أكثر فجوراً، لدعهما بشرعيّات، عابرة للأوطان، لا المصلحة الوطنية. إحدى مميزات الدّيمقراطيَّة الشَّوهاء، أن يكون التَّصويت وفقها غبيّاً، وإن وصف العلايلي التصويت، ضد التقدم والوطن والعِلم، بالغبي، فهو يقصد مَن لا يعرف يساره مِن يمينه، وكذلك الأذكياء في خراب بلدانهم، الـ «مستأجَرِينَ يُخرِّبونَ دِيارَهُمْ/ ويُكافئونَ على الخرابِ رواتبا/ الحاقدينَ على البلادِ لأنَّها/ حَقَرتْهُمُ حَقْرَ السّليبِ السّالبا»(الجواهريّ، هاشم الوتريّ 1949).
ففي كل الأحوال الحقّ لا يُدرك بالتّصويت الغبي، والكثرة الجاهلة بالتّجهيل الممنهج، هذا ما أراد شبلي شميل وعبد الله العلايليّ التنبيه لخطورته، فبئس الاتفاق على تصويت لخراب الأوطان، لا عمرانها.
*كاتب عراقي