بعد ثلاثة ايام من وصولي لبيروت في ديسيمبر ١٩٧٥، وبعد يومين من الإقامة في فندق مي فلور، تمكنت من أن ألتقي بصديقي سبحان مراد، وانتقلت للعيش في شقة أهله، التي لم يكن فيها غيره، والتي تقع في طلعة شحادة غرب بيروت. وكان مازال طالباً في كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأمريكية. كنت أزور حرم الجامعة يومياً، لكن أغلب القيادات اليسارية والفلسطينية اختفت من الجامعة، وعندما سألت أخبروني أنهم انتقلوا إلى جامعات في أمريكا وأوروبا. وعلمت أنه نادراً ما شارك طلاب الجامعة الأمريكية في القتال، ان كان ذلك مع القوات اليسارية من فلسطينيين وناصريين وقوميين سوريين وشيوعيين، أو مع القوات اليمينية من كتائب وأحرار وقوات لبنانية وحراس الأرز. فطلاب الجامعة الأمريكية ينتمون إلى طبقة وسطى عليا بشكل عام، أما المقاتلون فينتمون إلى طبقات وسطى دنيا، يعني من اليمين أو من اليسار هم «معترين». ويبقى ظافر الخطيب حالة استثنائية، فهو من عائلة كبيرة في شحيم، التي تعتبر المركز السني الأهم في الشوف، وكان في السنة الرابعة في الجامعة الأمريكية، عندما استشهد مقاتلاً مع تنظيم يساري. التقيت مع بعض الطلاب والطالبات الأردنيين والفلسطينيين، الذين كانوا يأخذون معي كورسات الكيمياء والفيزياء والأحياء في الحرم الجامعي السفلي. وكان معظمهم على أبواب التخرّج، لذلك استمروا بالجامعة رغم الحرب. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الخدمات من ماء وكهرباء وتوفير السلامة، كانت مستمرة في مباني الجامعة، حتى أن جولة فيها تُنْسِيك أنك على بعد 4 كم من جبهة قتال، يقتل شباب في مقتبل العمر بعضهم بعضاً، تنفيذاً لأوامر من قيادات، حرص بعضها منذ بداية الحرب على إرسال أبنائهم وبناتهم لإكمال دراستهم في أوروبا والولايات المتحدة.
وكنت أعلم أن إحدى الطالبات، التي كانت ملتزمة مع تنظيم فلسطيني وتدرس في متشيغان، موجودة في بيروت، فتواصلت معها، واتفقنا على أن نلتقي في مكتب صحيفة الهدف الأسبوعية الناطقة باسم الجبهة الشعبية. وفي مكتب الصحيفة غير البعيد عن شارع الحمراء، التقيت بالقيادي في الجبهة تيسير قبعة، وهو من المناضلين المؤسسين لحركة القوميين العرب. وكان قد درس الحقوق في الستينات من القرن الماضي في دمشق، ثم الماجستير في جامعة القاهرة. وتيسير قبعة من مواليد قلقيلية في عام 1938، وانتقل لرحمة الله في عمّان عام 2016. هذا وقد طلب مني المرحوم قبعة أن أنقل لمكتب صحيفة الطليعة في الكويت عشرات الرسائل البريدية لترسلها «الطليعة» عبر البريد الكويتي إلى الوجهة المكتوبة على كل ظرف إلى الخارج، بعد أن تعطّلت خدمات كثيرة في لبنان، بما في ذلك الخدمات البريدية. فسلمني المرحوم قبعة الرسائل في صندوق، تبلغ أبعاده حوالي 12X35X50 سم تقريباً. وبعد يومين على لقائي مع قبعة فتح المطار، وحرصت قبل أن أتوجه إليه، على لقاء عمر مكداشي، الذي كان قد سلمني أخوه طارق مبلغاً بالدولارات لتسليمه له. فسلمته نصف المبلغ بالدولارات، والنصف الآخر بعملات أخرى. هذا وقد تعرفت أكثر على عمر مكداشي في آن آربر، عندما قدم للدراسة في متشيغان. وأنا في الطائرة متوجهاً إلى الكويت – وبعد حوالي أسبوع في بيروت – اكتشفت بعض الشيء عن نفسي، مثل أن السبب الرئيسي لزيارتي لبيروت كان إشباعاً لفضولي برؤية بيروت وهي في حالة حرب مع نفسها، بعد أن عشت فيها ثلاث سنوات في حالة مختلفة جداً. كما اكتشفت كذلك، ومن زيارة إلى المواقع القتالية، أني لا أصلح أن أكون مقاتلاً، وحبي للمغامرة يتناسب مع شغفي الصحافي أكثر منه من حماس المقاتل. وبعد أسبوع في بيروت، شعرت بشوق إلى شقتي 304، التي تقع في مبنى 721 على شارع ساوث فوريست في مدينة آن آربر في ولاية متشيغان. كما تأكد لي أنه في أغلب الأحوال يكون المقاتلون والشهداء والمقعدون من الطبقات الوسطى الدنيا من المجتمع، وهذا من الطرفين المتقاتلين، يعني عادة ما يكون «المعترين» باللهجة اللبنانية هم وقود المدافع.
كوني قادماً من بيروت، وفي ظل حرب أهلية، كان متوقعاً أن أفتش بدقة في مطار الكويت. وقد لفت نظرهم الصندوق المغلق، الذي سلمني إياه المرحوم تيسير قبعة، فأخبرتهم أنها رسائل بريدية سترسل من الكويت لتعطل البريد اللبناني، ففتحوه وتأكدوا من ذلك، ولم يفتحوا أية رسالة. وفي اليوم الثاني من وصولي، توجهت إلى مبنى صحيفة الطليعة في الشويخ، وكانت المرة الأولى لدخولي إياه. وفي «الطليعة» قابلت المرحوم سامي المنيس، وسلمته الصندوق الكرتوني، والذي بدا أنه كان مفتوحاً جزئياً، وأخبرته أن هذا من تيسير قبعة. فسألني: لماذا فتح؟ فشرحت له أنه قد فتح من قبل رجال الأمن في المطار، فنظر إلي بنظرة لم أستطع تفسيرها إن كان تقديراً أم شكاً!
لم تزد إقامتي في الكويت على أسبوع، وأذكر انه حينها كنت أقرأ النسخة الإنكليزية من رواية «مصير إنسان» للفرنسي أندريه مالرو. ولا أذكر أني التقيت بأي من أصدقاء الجامعة الأمريكية في هذه الزيارة إلى الكويت. وقد يرجع ذلك إلى أن فائض الحماس لأحداث الحرب اللبنانية، المتشرب في عواطفي والمهيمن على عقلي، جعلني غريباً حتى مع أقرب الناس لي. ومع أني كنت مسروراً لعودتي إلى آن آربر، ولقاء الأصدقاء في شقتنا التي كنت أشارك الصديق عبدالرحمن الشملان فيها، إلا أن هموم الدراسة وتساقط الثلوج زادا من كآبة المكان. وظلت دوافع رحلتي إلى بيروت في ديسمبر 1975 غير واضحة حتى بالنسبة لي. لكني فهمتها أكثر في 2 أغسطس 1990. فعندما سمعت، وأنا في شقتي في قبرص، أن الدبابات العراقية دخلت مدينة الكويت، قررت أن أرجع إلى الكويت حتى قبل أن أخبر زوجتي بأن العراق غزا الكويت. وكنت خائفاً من ردة فعلها، فكان لدينا طفل وطفلة، وليس لدينا مصدر دخل غير رواتبنا. لكن من حسن حظي أن زوجتي الرائعة تفهمت دوافعي للرجوع إلى الكويت. فجميع إخواني وأخواتي خارج الكويت ووالدتي وحدها هناك. وقد شجعني على العودة مشكوراً ابن أختي رياض الربيعة، الذي سهل عودتي بأن استقبلني بمطار البحرين، ثم في بيته في الخبر، ثم توجهنا إلى الحدود، أبو حدرية أولاً، والخفجي ثانياً، ثم غرباً إلى مخفر الرغوة، حيث التقيت بشابين سعوديين شجاعين، أحدهما يقود تويوتا كريسيدا بيضاء، وعندما شاهداني توقفا، وأخبرناهما أن أحدنا يود أن يرجع إلى الكويت، فرحّبا بي. وبعد أقل من ساعتين، وبعد المرور على ثلاث نقط سيطرة عراقية، تسمح لنا نقطة السيطرة الرابعة بالدخول.
كنت أعتقد أني سأحتاج لأن أمشي عشرات الكيلومترات لأتمكن من دخول الكويت، لذلك كنت أتدرب على المشي يومياً في قبرص، لكن ولحسن الحظ، لم أحتج إلى لياقتي، فالسعوديان الشجاعان، اللذان قابلتهما عند مخفر الرغوة، سهَّلا عليَّ المهمة. فكان دورهما شبيهاً بدور اللبنانيين الشجاعين، اللذين قابلتهما في مطار فرانكفورت في الأسبوع الرابع من ديسمبر 1975. فقد اشتقت لبيروت في ديسمبر 1975 واشتقت للكويت في أغسطس 1990، ويأتي الإقبال على المخاطرة للوصول إلى المكان بقدر الشوق إليه. وإن كانت والدتي قد زادت من شوقي للكويت، فإن قراءاتي - خاصة لإيريك رولو - زادت من شوقي لبيروت. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الحكومة الفرنسية، التي كان يرأسها الاشتراكي ميتران عيّنت أريك رولو سفيراً لها لدى منظمة التحرير في تونس. فكان ميتران حكيماً باختياره. فرولو ليس صحافياً فقط، وإنما مؤلف لأكثر من كتاب ومفكر كبير وخبير في شؤون الشرق الأوسط. فبعد أن طردته مصر عام 1952، استقبلته فرنسا. وظل وفياً لانتمائه العربي، كما أن يهوديته لم تتصهين.
أكتب عن تجاربي الشخصية، لأبيّن أسباب التغيرات التي طرأت على قناعاتي في اختيار الوسائل لتحقيق الأهداف السياسية. مازلت أؤمن بأن إسرائيل دولة استعمارية، وأن الصهيونية أيديولوجية متأثرة بعاملين: الأول هو الفكر الأوروبي الكولونيالي في القرن التاسع عشر، والثاني اضطهاد اليهود في روسيا وأوروبا الشرقية في القرن التاسع عشر، والذي وصل إلى قمته إبان الحرب العالمية الثانية في ألمانيا. ومازلت أؤمن بالحق العربي في فلسطين، لكن تعريف هذا الحق قد تغيّر بالنسبة لي، وقد استغرق هذا التغيير حوالي نصف قرن من الزمان. فإضافة إلى تجربتي مع الحرب الأهلية اللبنانية، فإني عاصرت الحرب العراقية الإيرانية، والتي ولدّت غزو العراق للكويت، ثم حرب تحرير الكويت، ثم الغزو الأمريكي للعراق، كما أني تأثرت كثيرا بما حل في سوريا من حرب أهلية، تمكّن فيها النظام من هزيمة الثورة بتدخّل مباشر من روسيا وإيران وأدواتهما في المنطقة. وقد أدت هذه الحرب إلى استشهاد أكثر من نصف مليون سوري، وتهجير 13 مليون سوري آخر بالداخل والخارج. فمن الوهم أن نعزو معظم مشاكلنا إلى اسرائيل.
هذا وإن كنت أؤمن بالحق العربي في فلسطين، فإني لا أؤمن بتحرير كامل التراب الفلسطيني، بل أرى أن هناك 14 مليون يعيشون على أرض فلسطين من النهر إلى البحر: سبعة ملايين فلسطيني، وسبعة ملايين يهودي. وهؤلاء لابد أن يتعلموا في النهاية أن يتعايشوا بعضهم مع بعض. وبالرغم من الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل منذ 7 أكتوبر، فإن هناك أملاً كبيراً من أن تتوافر الفرصة لأهالي غزة، وأهل كل فلسطين، الحياة الكريمة والآمنة. وإن كان هناك أمل بمصالحة عربية إسرائيلية، فإنها لن تكون في ظل حكومة يرأسها نتانياهو، ويكون بعض أعضائها أمثال: بن غفير وزير الأمن، وسموتريش وزير المالية. فالأخيران يمثلان قمة الانحطاط في العقل اليهودي من جهة، وقمة الوحشية من جهة أخرى. وسأستمر في الجزء القادم في تقديم كتاب وشخصيات يهودية سارت على طريق شتيفان تسفايغ –صديق هيرتزل والرافض للصهيونية – ومثل إيريك رولو – اليهودي المصري – الذي حفزني لزيارة لبنان في ديسمبر 1975.
د. حامد الحمود