هل يدرك المثقفون العرب أن أجيالنا المقبلة ستلاقي صعوبات كبيرةً في التعامل مع تاريخ الثقافة العربية، مقارنةً بشعوب وأمم كثيرة مع تاريخ ثقافاتها؟
هذه القضية تشكّل عبئاً أخلاقيّاً على العرب حاضراً، لأنه من المنطقي أن تكون نخب المفكرين والأدباء والنقاد اليوم أقدر من نظرائهم في منتصف القرن فصاعداً على فهم التراث وفحصه. لا يمكن تصور أن التقدم العلمي والتقاني سيكون معزِّزاً لمكانة الفصحى والقدرة على استيعاب الميراث الأدبي والفكري الكلاسيكي، في العقود المقبلة. لا مفر من الاعتراف بأن النتائج ستكون مؤسفةً على صعيد مقومات الهوية، لدى الأبناء والأحفاد.
حين نتحدث عن الحضارة الغربية، غالباً ما ننسى أنها بانوراما متشكّلة من ميراث اليونان وميراث روما، والفوارق بينهما شاسعة حتى من حيث التكوين الذهني، إن لم نقل من حيث طريقة أداء الدماغ. مثلاً، في اليونان كانت الرياضيات قاعدةً وأساساً في علم الفلك والموسيقى والفلسفة، بينما على القارئ أن يسأل نفسه إن كان يعرف عالم رياضيات واحداً من الإمبراطورية الرومانية. شتان ما بين الفلسفة الألمانية والفلسفة الفرنسية، ومع ذلك نرى الغرب كله حضارةً واحدةً، وهم عندما يُدرّسون تاريخ الأفكار ويؤلفون الكتب فيه، يرونه شجرةً واحدةً، من الجذور المتباينة إلى الأغصان. تاريخ الفلسفة الغربية لديهم مسلسل مترابط الحلقات، منذ ما قبل الفلاسفة السقراطيين في أثينا إلى هيغل وسارتر. تاريخ الموسيقى الغربية يمثل عندهم نهراً واحداً من فيثاغورس إلى الإنشاد الغريغوري إلى عصر النهضة في إيطاليا وباخ وبيتهوفن وتشايكوفسكي...
الجسم الغربي مرتاح في جلد تراثه وهويته التاريخية، بالرغم من كل التناقضات بين المكوّنات. هذا التصالح الثقافي مع الذات وجذور الهوية، هو ما يجب تحقيقه لكي نستطيع إعداد الأجيال المقبلة به، إذا أراد المفكرون والمثقفون الإجابة عن السؤال العويص: ما هي أسباب عسر جمع الشمل العربي، فإن شق الجادّة الواضحة سيتوقف على مدى وضوح المقومات الثقافية للهوية العربية.
القضايا أبعد بكثير من أن تكون سياسية فقط أو اقتصادية فقط. ما هي الأعمدة الثقافية المتينة التي بمقدورها تحقيق الرباط الوثيق الذي يشكل هوية متجانسة؟
لزوم ما يلزم: النتيجة البوصليّة: إذا لم يفعل ذلك المثقفون اليوم، فلن تكون للآتين بوصلة فكريّة ثقافيّة واضحة.