يكون قد مرَّ، بين (1982) و(2024)، اثنان وأربعون عاماً، ومحاولتا اغتيال تعرض لهما صاحب مؤسسة المدى للإعلام والثّقافة والفنون العِراقيَّة، الأولى ببيروت مِن قِبل نِظامٍ عارضه، والثّانيّة (22 /2 /2024) برصاص مَن عارضَ لأجلهِ. مرت أربعة عقود والزَّمن يجري معكوساً، في الأولى كان مطلوباً لشخصه، وفي الثَّانية لمشروعه، وأجدها أفجعَ وأفظعَ، إن صحت المفاضلة بين اغتيال واغتيال.
كان الأملُ، قبل أربعين عاماً، يحفز العمل لعراقٍ جديدٍ، وإذا فخري كريم حصد عمله، وحاله بالعراق الجديد، حال حمزةَ الصّياد، والقول لمحمَّد مهديّ الجواهريّ (ت: 1997): «مضى حَمزةُ الصَّياد يصطادُ بكرةً/ فآب وقد صادَ العشيَ غرابا» (بيتان لصديق صياد 1942)، محاولة اغتيال!
ما تعرض له صاحب «المدى»، نُفذ تزامناً مع معرض الكتاب ببغداد، الذي أسسه، وجرت محاولات لمصادرته بمعرضٍ آخر، فكان أصحاب المعرض المنافس كقوم دُريد بن الصِّمَّة (ت: 8هجرية): «وهل يُستبانُ الرُّشدُ إِلاّ ضُحى الغَدِ»، مرت عشرون عاماً ولم يفكروا بمعرضٍ ولا مشروع ثقافيّ، وكم غدت الثَّقافة مِن حصة ميليشيا في توزيع الحقائب.
كان معرضه سويةً مع معرض أربيل لربط الجبال بالسُّهول، للبقاء على لغة كلام مشتركة بينهما، خلال أيامهما يشعر العراقيون بوجود مَن يُنافح لمشروع ثقافي عراقيّ، خارج العقائد والذَّوبان في الولاية، والسَّابق حزب «ذوبوا في فلان».
كان حضور الإسلاميين في المعرضين علامةَ عافيةٍ وطنيةِ، ممَن رأوا في مشروعهم تعطيلاً للثقافة بمعناها الإنسانيّ، فمالوا إلى «المدى»، ولا أدري عن ردة فعلهم على الحادثة، فأحدهم احتج منتصراً ضد العنف، وآخرون سكتوا، فلا يريدون خسارة منافع الصّحبة القديمة.
أقول هذا لأنَّ محاولةَ الاغتيال، سبقتها تهديدات، على مدى سنوات طويلة، بسبب ما تنشره المدى ضد الإسلام السّياسيّ، المتحكم بالميليشيات والثّروات، وما نشرته مِن ملفات الفساد، ولو كان المطلوب غير صاحب المدى لانتهى قبل كامل شياع (2008)، المولع بالفلسفة، وصاحب المشروعٍ الثَّقافي الجدير بالاهتمام، والجدير بامتعاض الإسلاميين أيضاً، ففخري كريم لديه أدوات الحماية، لكنها تبقى محدودة مقابل كاسحاتهم.
لم تعد بغداد آمنة، فعندما يُهدد رئيس جمهورية، ورئيس وزراء بالاغتيال، والسّلطة تصبح وسيطاً بين عصابة الخطف وذوي المخطوف، فاعلم أنّ الأمر أكبر مِن السُّلطة نفسها. أقول نفد صبر الظّلاميين، أصحاب مشروع الخراب، على صاحب المدى، لأنه حاول حماية الثمانمئة متظاهر، وشيع لشعارهم «نريد وطناً» في جريدته وسط بغداد!
نفد صبر حيتان الفساد، لأنّ «المدى» تعاونت مع أحمد الجلبي (ت: 2015) بنشر ما جمعه مِن ملفاتهم، وكان مخلصاً في ما تقدم، بعد أن وجد نفسه مهملاً مِن قبل مَن وطأ لهم الغزو الذي أتى بهم.
تجاوزت «المدى» الخطوط الحُمر، وتصدت لمعارضة الإسلام السّياسيّ، لكنَّ غلطةً غلطها فخري كريم، كراهة لما شاع عن عودة البعث، فأخذ بيد أمين الدّعوة إلى ولاية ثانيّة (2010)، وكانت الأشر، وكلما تحدث عن كارثيتها، يعض أصبعه ندماً، ونَردُ لائمين: «كنت سلماً».
نجد المشروع مزدوجاً، الفساد والظّلام، والمدى اطمأنت للديمقراطيّة، تنشر حوادث الاغتيال والاختطاف، وأوكارهم العواصمَ وسط العاصمة، تعدت «المدى» حدودها، فصدرت الفتوى بتصفيتها! وعلى دعاة التّنوير، مهما عظمت الخصومة، ستطولهم فتوى التّصفية كافة، بيد تماسيحٍ جائعة للحومهم، لا يهادنون على مشروعهم التَّدميري.
أعود إلى الجواهريّ، فعنده ما يفيد، وإن اختلفت المناسبة، للتَّذكير بمجازر ستطول كل عقبة ضد الخراب، والمنفذون مؤمنون بفقهائهم، لا تُطلق رصاص إلا بفتوى: «هُناك تنتظِرُ الأحرارَ مَجزرةٌ/ شنعاءُ سوداءُ لا تُبقي ولا تَذَرُ/أكانَ للرِفِقِ ذِكرٌ في مَعاجِمهمْ/ أم كانَ عن حِكمةٍ أو صحبِهَ خَبَرُ/واللهِ لاقتِيدَ زيدٌ باسم زائدةٍ/ ولأصطلى عامرٌ والمبتغى عُمَرُ (تحرك اللِّحد 1936). ما يحدث اليوم، الاغتيال مِن شيم الكهوف.