: آخر تحديث

نحن والتاريخ

8
12
9

مؤمنة تماماً أن النظر نحو التاريخ وسياقه وأحداثه عندما يتجرد من مختلف العوامل وعندما يتم التوجه نحو- الحدث التاريخي – فإنه سيفتح آفاقاً جديدة ومتنوعة لاكتشاف الحدث وجوانبه وأسبابه، بمعنى عندما تكون حالة تاريخية متكاملة ولا ضبابية فيها ونضعها في سياقها الزمني الصحيح ونعرف مكانها وأين وقعت فإن هذه الجوانب ستساعدنا على فهم تام دون الحاجة إلى إضافة آراء أو وجهات نظر قد تؤثر على جوهر التاريخ، فيتم خلط الرأي بالحدث، وهذا ما تضج به كتب التاريخ اليوم، وأقصد تحديداً كتب التاريخ، وليست كتب دراسة التاريخ، كتب التاريخ التي أخذت على عاتقها نقل الوقائع والأحداث تجد في الكثير منها مزجاً وخلطاً بين الحدث وبين آراء ووجهات نظر المؤرخ الذي تحول إلى مؤلف، وكأنه يعيد تشكيل التاريخ أو يريد رسم الأحداث وفق هواه حتى تتناسب مع توجهه سواء الديني أو الثقافي أو الاجتماعي، وهذه الحالة لا يمكن أن تخطئها العين فمن السهولة بمكان ملاحظتها خلال تصفح الكثير من الكتب التي تسمى كتباً تاريخية.

ولكن يتبادر سؤال: لماذا تتم محاولات إدخال نصوص تحمل آراء شخصية على الحقيقة التاريخية؟ السبب أن هذه الواقعة التاريخية مريرة أو مفاجئة أو أنه لم يقتنع بجوانبها، فهو يحاول تلميعها وتحسينها لتتناسب مع ميولاته وتوجهاته، وعلى ضوء هذا يمكن القياس، فمحاولة التأثير على التاريخ مستمرة ولن تتوقف ما دام أن هناك عقائد ومبادئ وقيماً تؤثر على البعض من المؤرخين، وبالتالي تؤثر على سلامة منتجهم في التدوين التاريخي.أعتقد أن علم التاريخ لم يجد ما يستحق من الاهتمام والرعاية رغم أنه من أعظم العلوم التي عرفتها البشرية، وقد يسأل أحدكم لماذا من أعظم العلوم؟

والإجابة وبشكل واضح ومباشر، لأن التاريخ هو العلم الذي لا يتوقف عن النمو فهو في استمرار دائم، فجميع ما حدث في الماضي هو معني به، فالأمس هو معني به وقبل ساعة وقبل لحظات هو معني بطريقة أو بأخرى به أيضاً، التاريخ هو ببساطة متناهية حياة البشرية منذ الأزل وحتى هذه اللحظة التي ستتحول إلى تاريخ بعد عُشر من الثانية وأقل، التاريخ معني بك أنت كشخص وبما قدمته وبما أحدثته وبما تفكر به.

عظمة هذا العلم أنه طوال مسيرته امتزج مع البشرية، وقد كان كريماً مع الإنسان، بل يعد واحداً من أعظم العلوم، الذي بواسطته نقلت علوم أخرى للبشرية، ولكم أن تنظروا نحو أي علم كيف بدأ وكيف تطور ومن هي الشخصيات من العلماء التي أثرت فيه ودرسته وعملت وقدمت مبتكرات جديدة، هذا جميعه لم يكن ليتم لولا عملية تسمى التاريخ وكتابته، علماء الرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب بل حتى الطيران والفلك، وغيرهم الكثيرون، يثقل كاهلهم دين عظيم مستحق الدفع يسمى التاريخ، كيف وصلتنا المبتكرات والمخترعات؟ وكيف عرفنا النوابغ والعباقرة الذين أثروا البشرية؟

كيف عرفنا بأناس ضحوا بحياتهم من أجل نقل المعرفة والتجارب البشرية؟ إنه التاريخ.. إنه هو الذي يقوم دوماً باختزال جميع العلوم وضمها لردائه الواسع العظيم، وهو من يقف خلف كل هذا الوهج العلمي، وهو من يقف خلف كل هذه الأضواء المعرفية التي تغمر كوكبنا، لولا التاريخ وعملية توثيق التاريخ التي تمت بإنصاف وعدالة وكما هي، لولا هذه المهنية وهذه الدقة العلمية في النقل، نقل روح الاختراع، نقل روح الكشف العلمي، نقل روح العلوم كما سردها علماؤها ومكتشفوها، لولا كل هذا لما تمكنت البشرية من التطور والتقدم، ولكم أن تتخيلوا كيف تمكّن الإنسان منذ فجر الماضي السحيق من نقل تجاربه وكشوفه ولم تكن هناك عملية تسمى التاريخ وتدوين الأحداث؟ ولكم أن تتخيلوا أيضاً لو أن كل مجتمع أو حضارة وضعت يدها على اختراع أو كشف علمي ساهم في تسهيل حياتهم ثم تلاشت هذه الحضارة ومعها انتهى هذا المخترع أو تم طمس هذا الكشف العلمي، فكيف سيكون حالنا اليوم؟

السيناريو المحتم، هو أن كل أمة وكل حضارة ستبدأ من جديد، وهو ما يعني العودة لنقطة الصفر، وهو ما يعني بشكل أدق عدم التطور، لأن من خصائص التطور تواجد لبنات يُرقى ويصعد عليها، وإلا لم يكن ليسمى بتطور، وإنما يسمى بجديد، والجديد يعني البداية، أما التطور فيعني البناء على ما تقدم وترقيته وهكذا تستمر العملية.. البشرية برمتها تدين للتاريخ وعلومه بالشيء الكثير من الفضل لازدهارها وتفوقها وتقدمها.

المؤلف والباحث الكبير قسطنطين زريق، في كتابه القيم الذي حمل عنوان: «نحن والتاريخ» قال: «عسى أن تكون علاقاتنا بالتاريخ علاقة تفاعل إيجابي، وعسى أن نتمكن في هذا الظرف الرهيب من حياتنا من أن نرد على تحديه الضخم الخطير بأصفى ما نمتلك من فكر، وأنفذ ما نقدر عليه من عمل، وأروع ما نحن أهل له من خلق وإبداع، بهذا يؤدي موقفنا التاريخي الحاضر خير معانيه، ويرتفع إلى أسمى ذراه، بهذا نجلّ ونعظم نحن والتاريخ»..

وبالفعل فإننا نحتاج فعلاً إلى التفاعل الإيجابي مع تاريخنا بصفة خاصة والتاريخ البشري بصفة عامة، دون حساسيات أو منغصات، لتبقى دراستنا في التاريخ كخبرات بشرية مفيدة تساعدنا على تجاوز أحداث الحاضر وعقبات المستقبل، وليس لتغذي الكراهية والحروب وكل الصفات المذمومة من العنصرية والاضطهاد والقسوة والظلم، بل ليزيدنا التاريخ انفتاحاً ودعوة نحو السلم والمحبة، لأننا تعلمنا من التاريخ أن العداوات لا منتصر فيها، وعلمنا التاريخ أن الكراهية هي الخطوة الأولى نحو الحروب التي لا ترحم والتي في العادة لا منتصر فيها، فهناك من يموت فيها بجسده وهناك من يموت فيها بروحه، وكلا الخصمين في الحقيقة مات، هذا هو التاريخ الحقيقي، فلا يمكنك أن تقرأ فيه سجله دون أن تعرف حقائق ودون أن تزداد خبرات ومعارف، لذا دوماً تكسب دعوات تنقية وتصفية التاريخ من شوائب الوجاهة والقابلية والتأييد، ليبقى سِفراً نظيفاً من الميولات والمعارك الخاصة والشخصية، ليبقى التاريخ نظيفاً لا يحمل إلا المعرفة التي نحتاجها دون قسوة أو ألم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد