: آخر تحديث

الجغرافيا السياسية للبحر الأحمر

35
36
36

الجغرافيا السياسية هي دراسة كيفية تأثير الجغرافيا على السياسة والعلاقات الدولية، وقد جذب البحر الأحمر انتباه قوى العالم السياسية والعسكرية والاقتصادية واللاعبين الإقليميين منذ القدم. ومع موجة التحرر من الاستعمار في دول المنطقة وخاصةً دول القرن الأفريقي والدول العربية وتبادل الأدوار بين القوى الكبرى، نجد أن التفاعلات المعقدة بين القوى العالمية والإقليمية في المشهد الجيوسياسي للبحر الأحمر قد تبلورت في أشكال متنوعة بغرض إيجاد موضع قدم وفرض التواجد والتمركز الجيوستراتيجي، ونتج عن ذلك عدة صراعات عسكرية تمت إثارتها بطرق مشتبه فيها وخفية في نفس الوقت، وإنْ كانت بصمات الأجهزة الاستخباراتية للدول الكبرى والإقليمية الأكثر نفوذاً واضحة في تلك الصراعات والنزاعات، حيث لعبت دوراً محورياً في تأجيج عدم الاستقرار وترجيح كفة فصيل على الآخر.
وعلى الدوام وبطبيعة الحال ينتصر الفصيل الأكثر دعماً من الخارج والذي يخدم ويراعي مصالح القوى المهيمنة والساعية للهيمنة، والناشئة المساهمة في صناعة النظام العالمي الجديد.
كانت النتيجة كذلك نشوء تحالفات استراتيجية عديدة تتغير بتغير المشهد العالمي للسياسة والاقتصاد والقوى العسكرية العالمية، مما يعني تنامي قدرات الدول المتنافسة في توجيه السياسة العالمية فيما يصب في تحقيق استراتيجياتها وأهدافها العليا، والضغط على الدول الأخرى من خلال إجادة فن إدارة الجغرافيا السياسية والاقتصادية لنقاط الاختناق الأهم في العالم، وهو السبب نفسه الذي يجعل التواجد المؤثر في الشرق الأوسط والقارة الأفريقية مفتاح التفوق في أي صراع عالمي حالي ومستقبلي، وذلك ليس بسبب كونها منطقة تساهم في انسيابية التبادل التجاري العالمي وتصدير منتجات الطاقة الحيوية فقط، بل كذلك لوجود خزائن الأرض الأشمل والأكبر لمستقبل الطاقة والزراعة والتسليح والتصنيع والثورة التكنولوجية.. إلخ.
إلى جانب المواد النفيسة المعروفة بالمنطقة توجد مواد أخرى تمثل الثروات المسكوت عنها بل لا تعلم بعض الدول بوجودها بوفرة على أراضيها، على الرغم من أنها ستحدد بوصلة الصراعات القادمة بغض النظر عن السبب، كما سترتبط بمؤشرات وتوجهات من ستكون القوة الأكبر مستقبلياً، ولذلك لا يمكن التنازل عن تلك المعادن والمواد التي لا تقدر بثمن سواء كانت في الصحاري أو الجبال أو باطن الأرض أو في أعماق البحار.
وللحصول على هذه الموارد بصورة مستدامة وبأسعار زهيدة، لا بد من المضي في مشاريع عملاقة، بمنطقة البحر الأحمر، ومهما كانت كلفتها مرتفعة اليوم ستكون الكلفة بأضعاف خيالية غداً، ناهيك عن كونها المنطقة التي لن ينجح أي مشروع عابر للقارات دون الربط من خلالها والمرور الآمن منها.
الصراعات في غزة واليمن والسودان والبحر الأحمر وفي مناطق التواجد الأجنبي، تضيف مزيداً من توترات بالوكالة لضمانات اقتصادية وتأمين الموارد الطبيعية تحت غطاء عقائدي معلن في لبنان وسوريا والعراق والضربات الردعية رداً على هجمات تلك الميليشيات كطبقةً أخرى من التعقيد، مما يؤثر على الأمن البحري ويشكل تحديات مباشرة لاستقرار المنطقة ككل، وأضف على ذلك طموحات الدول الكبرى لتأمين طرق التجارة والمشاريع الاستراتيجية الرئيسية من خلال التموضع المادي والمعنوي والإلكتروني، إلى جانب جهودها للحفاظ على نفوذها وهو ما يمس توازن القوى في البحر الأحمر وديناميكيات القوة الإقليمية، وهنا تبرز التفاعلات بين مختلف الجهات الفاعلة بما في ذلك الأفراد والمنظمات والشركات والحكومات الوطنية التي تؤثر على الأنشطة السياسية والاقتصادية والمالية، والصراع على السيطرة على كيانات جغرافية ذات بعد دولي وعالمي، واستخدام تلك الكيانات الجغرافية لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.
وما بين الممارسة الجيوسياسية والتي تنطوي على أعمال مثل شن هجمات أو نشر قوات في بلدان أخرى، أو الحصول على حقوق وتواجد من خلال التعاون الاقتصادي والتجاري والعلمي والصناعي، والتمثيل الجيوسياسي الذي يشير إلى تصوير الأعمال العسكرية على أنها عادلة أو أخلاقية وتصوير تصرفات الخصوم على أنها عدوانية وغير مبررة، تضع الجغرافيا السياسية إطاراً عاماً لفهم تعقيدات الممارسات على الساحة الدولية، وتعطي فهماً أكبر للاستقطاب الجيوسياسي والتوسع العسكري غير المنضبط من قبل العديد من الجهات الفاعلة.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.