العالم الفيزيائي الكبير ستيفن هوكينج فاجأ العالم، وخاصة المفكرين والفلاسفة، في دراسة تحت عنوان «التصميم الكبير» عام 2010 برأي يناقض دوره وجهوده الفكرية، وهو أن «الفلسفة ماتت». فعلأ، الفلسفة التي جنحت عن الواقعي والإنساني قد ماتت بفضل التقدم العلمي، إذ إنها كانت منهمكة في مسائل العقل المجرد والبحث عن المستحيل، وتحويل النظريات الفلسفية إلى ما يشبه العقائد اليقينية، اي أيدولوجيات، رغم أن جميع التصورات والنظريات والمذاهب الفلسفية غير يقينية، وانه بمجرد أن ترتقي مسألة فلسفية إلى مكانة اليقين، تكون الفلسفة عندها قد ادت دورها، مثل مسألة النظام الشمسي الذي تفلسف فيها افلاطون وارسطو وغيرهم بنظريات بعيدة عن الحقيقة الكونية، ولكن جهودهم الفكرية كانت المحفز للعقل كي يبحث ويصل إلى الحقيقة. ستيفن هوكينج يعلم جيدًا أن جهوده البحثية هي في ذاتها فلسفة، وأن نظريته الشهيرة عن الانفجار الكبير مازالت تتفاعل في دائرة النظرية العلمية، وبين النظرية العلمية والنظرية الفلسفية مسافة إلى الحقيقة. وبهذا المعنى فإن الفلسفة قدر الإنسان.
وقدر الإنسان ان يعلم، وليس له من سبيل إلًا أن يتعلم، والإنسان منذ اول لحظة، في مرحلة الطفولة البريئة الاولى، يرى فيها الاشياء بالوانها واشكالها، وبحركتها وسكونها، وبصوتها وصمتها، وهو مندهش بما يرى ويسمع ويلمس ويتذوق، وهو في عرف العلم والمعرفة صفحة بيضاء طاهرة. والدهشة فطرة، ويتحفز العقل بما تثيره دهشة الفطرة، ومن هنا يبدأ مشوار التفاعل بين الفطرة والعقل، إذ أن الفطرة تندهش والعقل يسأل، وهذه هي لحظة مخاض الفلسفة. والفلسفة تتوالد طالما ان الإنسان يتوالد. إنه قدر الإنسان أن يكون فيلسوفا، منذ اول شعور بالدهشة، مهما كان نصيبه متواضعًا أو هزيلًا من المعرفة، فإذا كان الطفل الرضيع يندهش والحيرة تشغل عقله، فكيف بالإنسان الناضج وحتى البسيط الحال الذي يكد ويكدح من اجل لقمة عيشة، وقد مر بتجارب سابقة من الدهشة والسؤال ومن الإجتهاد، وحاضره ومستقبله كَمٌّ من الدهشة والتساولات تنتظره. مهما بلغ الإنسان من تقدم في مجالات ومستويات العلم وتوسعت وتعمقت المعرفة عنده، إلًا أن مواضيع العلم والمعرفة بذاتها تثير في نفسه أنواعًا من الدهشة، وطالما أن الدهشة تتوالد فان الاسئلة تتتابع وتتغذى منهما الفلسفة… الفلسفة، بهذه العلاقة المصيرية بينها وبين الإنسان، حية لا تموت ولا يمكن حتى خنقها او قتلها. ولا سبيل للإنسان إلى ارتقاء سلالم العلم والمعرفة إلًا بالفلسفة، فالفلسفة هي الوسيلة ومنها السبيل إلى العلم اليقيني الذي يهدء من روع الدهشة، ويصبح العلم في خدمة الإنسان. عنصر آخر يتولد عند الإنسان مع مرور الزمن واكتساب نصيب من المعرفة والخبرة بفضل الدهشة والأسئلة، والتمييز بين الحقيقي والمجازي، واليقيني والمبهم، وهو الشك. الشك رديف للدهشة، يثير التساؤلات والاستفسارات ويحفز العقل من اجل ازالة حالة الشك إلى يقين ايجابي او يقين سلبي، وبهذا البعد في غور المعرفة فان الشك يدخل في قائمة اساسيات الفلسفة، وهو، اي الشك، بمثابة الاختبار لمنتجات العقل، فمنتجات العقل في حاجة إلى التاكد من جودتها وجدواها ومصداقيتها، وعدم السماح لها ان تتبوأ موضع اليقين او القبول دن المرور في مختبر الفحص بعنصر الشك … الدهشة والاستفسار والشك والتساؤل هي التي خلقت العلم ووسعت فضاء المعرفة، وهي التي عَرَّفَتِ الإنسانَ بذاته التي تتميز في العالم الحي بالذكاء والعمل والانتاج.
القضايا والمسائل التي تتفاعل تحت سقف الفلسفة، او على ساحة الفلسفة، يتم التعاطي معها، بغية الوصول إلى محطة اليقين او الرأي الذي ينسجم مع طبيعة الامور ويكون مقبولًا نسبيًا، من منطلقات الدهشة والشك ومن ثم طرح الاسئلة والتعامل مع عناصر القضية بأساليب فكرية صنفت بالمناهج الفلسفية، والمناهج في عمومها انقسمت إلى مدرستين مثالية ومادية ولكل منهما تشعبات منهجية عديدة. وجميع المسائل الفلسفية، بين المثالية والمادية، تتناول قضيتين رئيسيتين وهما أصل الكون وعلاقة الإنسان بالإنسان. قضية اصل الكون، حسب المنهج المثالي، اربكت الإنسان وجعلته يرهق الفكر والنهج الفلسفي في حيثيات يستحيل الوصول اليها او حتى الاقتراب الافتراضي منها، وهي في الاساس مسألة «خالق الكون والوجود»، وبهذا التحديد التشخيصي وجعله كيانًا مستقلًا عن الوجود وله اليد الطولى في الوحود فقد دخلت الفلسفة في متاهات عدة، إلى ان جعل لهذا المنحى المستحيل منهجًا روحانيًا أسماه «الميتافيزيقا»، أي ماوراء الطبيعة والبحث في الغيبيات، وهذّه الميتافيزيقيا اشغلت الكثيرين، دون طائل، منذ افلاطون والى عصر النهضة والثورة الصناعية والاكتشافات العلمية. مع تعاقب التطورات العلمية والصناعية واكتشافات قوانين الطبيعة تراجعت المدرسة المثالية واخذت المدرسة المادية الريادة والمهمة الفلسفية في عالم الإنسان.
المدرسة المادية تبحث في اصل الكون من منظور مادي بحت، وهي تنسجم مع النظرية العلمية التي جاء بها العالم الانجليزي الكبير ستيفن هوكينج وهي «الانفجار الكبير»، وما تبع ذلك من الثقوب السوداء واحتمالية وجود كيانات حية على كواكب اخرى، ومع نظريات داروين حول اصل الاجناس وانشاء علم النفس بجهود العالم سيجموند فرويد والنظريات الاقتصادية لكارل ماركس من منظور التاريخ المادي.
مع هذا التحول نمت مناهج التحليل والتجريب والاختبار والجدل وعلم الرياضيات في البحث الفلسفي، مما جعل الجهد الفلسفي اقرب إلى الواقع واكثر جدوى لحل القضايا العالقة، وخاصة المسألة الاساسية الثانية وهي «علاقة الإنسان بالإنسان» أي الإنسانيات.
إن نظرة عابرة بين المدرسة المثالية والمدرسة المادية والتحول النوعي للريادة الفلسفية من المثالية إلى المادية تدلنا على اهمية الفلسفة في حياة الإنسان. ما كان لهذا التحول أن يحصل لولا منجزات عصر النهضة، وما كان لعصر النهضة أن يتبلور لولا جدلية الفكر بين المدرستين وفي اطار كل مدرسة بذاتها، وبالنتيجة ما كان للإنجازات العلمية ولا اكتشاف قوانين الطبيعة أن تتحقق لولا وجود الكيان الفكري المعروف بالفلسفة.
الفلسفة مختبر فكري عظيم يتميز بحيوية تحفيز النفس البشرية لإشغال الفكر في قضايا الإنسان، وأن لا يقف الإنسان معصوب العقل امام قضاياه، وأنه رغم التطور العلمي وبروز مدارس علمية ومذاهب علمية تبحث في كشف المزيد والمزيد، إلًا أن للفلسفة مكانها المميز لتحفيز النفس البشرية ومد العون الفكري إلى العلماء والباحثين، اضافة إلى الدور الريادي والواجب الإنساني للفلسفة في مجال الإنسانيات لحل قضايا الحرب والسلام والارتقاء بالحضارة إلى مكانتها المرجوة من إنسانية تطمئن البشرية على مصيرها وحقوقها وكرامتها، وهذا جهد وواجب فلسفي منذ عهد الفيلسوف الحكيم سقراط الذي كان جل همه الفكري زرع الفضيلة في النفس البشرية. سقراط ونعم الإنسان ونعم الفيلسوف ونعم الحكيم، فقد كان همه الأول كيف يجعل الإنسان يحب أخاه الإنسان، في الوقت الذي كان بقية الفلاسفة منهمكين لاثبات المستحيل، وليت افلاطون وأرسطو اعطوا الفضيلة مساحة فكرية اوسع بجانب اهتماماتهم في القضايا الكونية والروحانية والغيبية وخاصة تلك الغيبيات التي يعد البحث فيها ضرب من المستحيل.
الإنسان والفلسفة متلازمان، تلازم الجسد بالروح، ويستحيل ان تموت الفلسفة إلًا اذا مات الإنسان، لأن وجود الإنسان سابق على الفكر والفلسفة.