لأول مرة منذ نشأتها قبل نحو سبعة عقود، ترى إسرائيل أنه عليها أن تدافع عن نفسها أمام محفل دولي، وهو محكمة العدل الدولية، بتهمة خطيرة تخص اقتراف جريمة إبادة جماعية. ومنذ 70 عاما ونيفا، تقدم إسرائيل ذاتها ضحية أبشع جريمة ضد الإنسانية وقعت بحق اليهود في أوروبا -وضع عدة خطوط تحت مفردة أوروبا للتشديد- جرى فيها حرق ستة ملايين يهودي أوروبي وهم أحياء.
والمرافعات كانت تجري، كنت في تواصل مع مجموعة من الأساتذة الجامعيين الذين أشترك معهم في المنهج البحثي النقدي وكانت الدهشة والذهول والحيرة تنتابنا.
"هل حقا هذه إسرائيل تحاول درء تهمة الإبادة البشرية عن نفسها؟ هل حقا هناك من يجرؤ في الدنيا على جرجرة إسرائيل إلى محكمة الجلجلة هذه؟" كانت تساؤلات مثل هذه وغيرها تنتابنا بين الفينة والأخرى.
لـ 70 عاما ونيفا، وإسرائيل تفعل ما تشاء من الأعمال الشنيعة بحق الفلسطينيين لو ارتكبت دولة أخرى 1 في المائة منها لهرع المجتمع الدولي -وهذا مصطلح فضفاض حقا- ليس لإدانتها فحسب، بل معاقبتها وفرض الحصار عليها.
هذا التسيب من المجتمع الدولي الذي أرسى دعائم حقوق الإنسان ولوائحه، ليس حبا في الإنسانية جمعاء ولكن في مسعى كي لا تتكرر المحارق مثل محرقة اليهود في أوروبا وألمانيا بالذات وأن تقود الحروب والعلاقات الدولية بعض الأخلاق والممارسات التي تلزم الأطراف بتجنب فظائع مماثلة مستقبلا.
ومحكمة العدل الدولية في لاهاي التي وقفت فيها إسرائيل مدافعة عن تهمة الإبادة الجماعية كانت إسرائيل ومحاموها وراء تشكيلها. سبحان مغير الأحوال وها نحن نرى كيف يقف المحامون عن إسرائيل في وضع لا يحسد عليه وهم يحاولون عبثا وبشهادة كثير من المحللين في الغرب إبعاد تهمة الإبادة البشرية عن دولتهم.
"لأول مرة في التاريخ ينقلب الواقع على إسرائيل،" صرحت أشهر صحيفة أمريكية وهي "نيويورك تايمز" في مقال عما حدث في لاهاي.
لن أسهب في الفظائع التي تقترفها إسرائيل في غزة، ولكن أقول وبشهادة الدنيا إنها دمرت القطاع على رأس ساكنيه وقتلت في أقل تقدير 1 في المائة من سكانه واقتلعت نحو مليونين منهم، أي أكثر من 90 في المائة من البشر القاطنين فيه، ومنعت عنهم الدواء والغذاء والماء وقصفتهم بعشرات الآلاف من القنابل ذات الأوزان الثقيلة والمخصصة لدك القلاع الكونكريتية المحصنة.
القرار النهائي حول تهمة الإبادة الجماعية قد يستغرق سنين لصدوره، ولكن على محكمة لاهاي إصدار قرار في فترة وجيزة إن كان على إسرائيل إيقاف حربها في غزة ورفع الحصار الخانق على السكان والسماح بدخول المساعدات الإنسانية دون معوقات.
ولكن من العسر التكهن إن كانت المحكمة ستنصف الفلسطينيين. التوقعات هي أنها سترمي التهمة جانبا وتبرئ ساحة إسرائيل، لأن المجتمع الدولي لن يستسيغ أو يقبل أن تدان إسرائيل بتهمة خطيرة مثل هذه تضعها في خانة المساءلة والعقوبات الدولية.
أو ليس المجتمع الدولي السبب الأول والأخير للفشل المريع في إيجاد حل سياسي مرض للطرفين كي يعيشا بسلام؟ أو ليس المجتمع الدولي السبب الأول ولأخير في استمرار وإدامة آلة الحرب الإسرائيلية المهولة هذه والتي سمحت لها باقتراف كل هذه الفظائع دون أن يرف لها جفن؟
مع ذلك، ستشكل المرافعة في لاهاي حول التهمة الموجهة لإسرائيل باقتراف جريمة إبادة جماعية مرحلة مفصلية في تاريخ محكمة العدل الدولية، وهي أرفع محكمة في العالم، لأنها دشنت سابقة في جلب دولة إلى قفص الاتهام كانت ولأكثر من سبعة عقود ترى نفسها فوق القانون، حيث لا يطالها حتى التأنيب من المجتمع الدولي مهما انتهكت من الأعراف والقوانين الدولية.
إسرائيل صارت تشعر بواقع مقلوب، حيث أخذ العالم يراها ويحسها على ما هي عليه، أي حقيقتها، وليس على ما يسبغه عليها المجتمع الدولي كونها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وأن جيشها أكثر جيوش العالم أخلاقية والتزاما بقوانين الحرب وحقوق الإنسان.
لم تعد السردية الإسرائيلية تقنع أحدا في رأسه عينان. ما تقترفه إسرائيل من انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان في قطاع غزة والتي ترقى إلى مصاف الإبادة الجماعية لا تبرر لأي عاقل أنها دفاع عن النفس. الحرب الإسرائيلية ليست العين بالعين كما تشرعن الدساتير الإنسانية، بل العين بملايين العيون.
لو تدري إسرائيل، ولكن لا أظن هناك من يحتكم إلى العقل في المؤسسات التي تقودها حاليا، أنها أضاعت بوصلة الأخلاق في حربها على قطاع غزة وهدمت كل ما بناه لها المجتمع الدولي وما شيدته لنفسها من أبراج أخلاقية عالية. في لاهاي وفي محكمة العدل تحطمت هذه الأبراج.
لماذا؟ لأن إسرائيل حتى اللحظة التي رأت فيها أنه لا بد من حضور المحاكمة لإبعاد شبح التهمة عنها، كانت تتصور وتتصرف كدولة ليس مثل باقي الدول في العالم بل وكأنها أرفع شأنا من الدنيا برمتها.
في لاهاي، رأت إسرائيل والعالم معها، أن حالها حال أي دولة أخرى في العالم بعد عقود من الحماية من قبل المجتمع الدولي.
حتى الآن، كانت إسرائيل تتصرف وكأنها فوق القانون أو هي القانون. من الآن فصاعدا على إسرائيل أن تفكر مليا بأفعالها وتصرفاتها تجاه الآخرين والفلسطينيين على وجه الخصوص، هذا إن اتعظت من الدرس الذي لقنته لها المرافعة في لاهاي.