: آخر تحديث

التفكير البراغماتي

7
7
8
مواضيع ذات صلة

ينتمي المفكر الأمريكي هنري كيسنجر إلى مدرسة البراغماتية والواقعية في التفكير. فقد كان هذا الرجل (الذي توفي قبل أسابيع عن عمر يناهز 100 عام) وراء قرار شهير للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بتطبيع العلاقات مع جمهورية الصين الشعبية في السبعينيات رغم الاختلافات الأيديولوجية العميقة بين البلدين، وهو توجه ينم عن البراغماتية السياسية، وذلك في محاولة لمواجهة النفوذ السوفيتي المتنامي آنذاك.

ولا تكاد تجد حقبة وأزمة إلا ويقف وراء حلولها ذلك الرجل. كان كيسنجر يلقب بـ«ثعلب الدبلوماسية» و«الساحر». وتم تصنيفه في استطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب العريقة كأكثر شخصية تثير الإعجاب في العالم بين أوساط الأمريكيين، في عام 1973.

البراغماتية التي سار على هديها كيسنجر وغيره تُعَرَّف بأنها فلسفة تركز على العمل والتطبيق العملي كأساس للمعرفة وإيجاد معنى لسلوكنا. فهي تنظر إلى الحقيقة كشيء يتطور ويتغير بناءً على تجارب الناس، وتؤكد على أن الفكر والأفكار يجب تقييمها من خلال عواقبها العملية ومدى فاعليتها في حياتنا.

بمعنى أن التفكير البراغماتي يركز على أن الفهم والتفسير لا يمكن فصلهما عن السياق الذي تُستخدم فيه الأفكار، ما يعني أن أفكارنا لها قيمة فقط إذا كانت مفيدة في حل المشكلات العملية.

وهذا يعني أنه عندما يتولى مسؤول براغماتي منصباً ما فإنه يظهر قدرته على التكيف مع الظروف المحيطة، ويتخذ القرارات التي تستند إلى نتائج ملموسة، بعيداً عن النظريات والمثاليات. ولذلك يصطدم البراغماتيون بالمثاليين الذين يرون أن الأفكار والمبادئ المجردة هي أساس للحقيقة.

ويصطدمون أيضاً مع المحافظين الذين ينحون باتجاه الحفاظ على الإرث أو التقاليد والأنظمة السائدة، في حين قد يجد البراغماتيون أنفسهم أمام قرارات تحقق نتائج أفضل من ذلك الموروث فيعبرون بكل ثقة نحو تلك الضفة.

ويعج عالم الأعمال بالعديد من القرارات البراغماتية، منها النقلة النوعية التي ستحدث في أوروبا بحلول عام 2035 وفي بريطانيا بحلول 2030 وهي تحول جميع السيارات الجديدة إلى العمل على البطاريات الإلكترونية، وهي نقلة جذرية بعد اكتشاف فوائد ذلك على المناخ والبشرية. وفي بعض الأحيان تنقذ القرارات البراغماتية الشركات من شبح الإفلاس.

وهو ما فعله ستيف جوبز رئيس شركة «أبل»، في أواخر التسعينيات عندما عاد إليها بإجراءات براغماتية مثل تقليص خطوط المنتجات والتركيز على عدد قليل من الأجهزة ذات الجودة العالية. هذا التحول ساعد في إنقاذ الشركة من الوقوع في براثن الاندثار، ووضعها على مسار الابتكار والنجاح إلى يومنا هذا.

والمفارقة أنه حتى المنافسين قد ينقذهم أحياناً اللحاق بركب البراغماتيين. فقد بدأت «سامسونغ» كشركة تجارية في مجالات مختلفة مثل الأغذية والنسيج، غير أنها في خطوة براغماتية بمعنى الكلمة، كرست جل تركيزها على الإلكترونيات ثم أصبحت واحدة من أبرز الشركات الإبداعية على مستوى العالم.

وعربياً، تناقلت وسائل الإعلام توجه الأردن نحو اتخاذ خطوات براغماتية في إصلاح نظام التعليم للتركيز على المهارات العملية والتقنية لتلبية متطلبات سوق العمل، هذا يعكس فهماً لأهمية التعليم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفعلت أمريكا أمراً مشابهاً في عهد ترامب عندما قدمت المهارات «skill» على الشهادات العلمية، وهو ما اعتبر نقلة غير مسبوقة في تاريخ أمريكا يعيد الاعتبار للمهارة أو الحرف التي كانت أصل كل شيء.

وما نشاهده اليوم من اكتساح المنتجات الصينية بما فيها سياراتها بجودتها العالية، هو نتاج للإصلاحات الاقتصادية في حقبة الثمانينيات بقيادة دينغ شياو بينغ، فقد فُتح في عهده الاقتصاد للاستثمار الأجنبي، وتحررت الأسواق على نحو غير مسبوق، فكانت النتيجة تحقيق نمو هائل، فصار العملاق الصيني يناطح كبريات الاقتصاديات لأنه بدأ بالتفكير بطريقة مختلفة جذرياً فكانت النتيجة كذلك.

وقد صدقت «نبوءة» بينغ عندما قال في عام 1978، إن الصين سوف تستغرق خمسين عاماً لإنجاز عملية التحديث وتحقيق السيطرة في المجالين السياسي والاقتصادي.

ليست البراغماتية وحدها المخلصة من أزماتنا، لكنها حاجة قد تكون مؤقتة في حقبة ما لتنقل البلاد والعباد إلى مجد جديد، وهذا لا يعني التخلي عن إرث الشعوب وتقاليدها ومعتقداتها. المهم أن يفكر المرء ومتخذو القرار بطريقة مختلفة، وإلا سنحصل على النتائج المريرة نفسها!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.