ليس هناك تصدّع في الاتفاقية السعودية- الإيرانية التي رعتها الصين، عكس ما يفترض بعض اللبنانيين عندما ينغمسون في تحليل انعكاسات العلاقات بين الرياض وطهران على الأوضاع اللبنانية. هناك عملية اختبار جدّي لحسن النوايا وللترجمة الفعليّة للتوجّه الجديد، كما يحدث في قضية حقل الدرّة والذي هو موقع خلاف بين إيران من جهة وبين السعودية والكويت معاً من جهة أخرى.
لبنان ليس في طليعة المحادثات السعودية- الإيرانية، لكنه ليس وحده المُستبعَد في هذه المرحلة من المحادثات، ذلك أنّ الطرفين تجنّبا حتى الآن البحث في موضوع العراق وسوريا ولبنان، حسبما أكّدت مصادر ديبلوماسية وثيقة الإطلاع، أشارت إلى أولوية العنصر الثنائي في عملية تنفيذ الاتفاق، وقالت إنّ السعودية الآن في انتظار زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي.
النرجسية اللبنانية تفسّر ما يحدث من خراب داخلي بأنّه عائد إلى الخارج، وفي هذا الكثير من الهروب إلى الأمام لتجنّب المسؤولية. لكن الواقعية السياسية تشير إلى أنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية ترتهن لبنان عبر حليفها الثمين "حزب الله". رجالها لم يحسموا أمرهم جميعاً لصالح الاتفاق مع السعودية، بل أنّ شطراً مهمّاً من القيادات الإيرانية يعمل على التصعيد، لاسيّما وأنّ العلاقات الأميركية- السعودية قد دخلت خانة الإصلاح الجدّي والتوطيد النوعي، وأنّ إحياء الاتفاق النووي الذي تُرفَع العقوبات بموجبه بات مُستبعداً قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية. وبالتالي إنّ لبنان ساحة جاهزة للتصعيد، إذا ارتأى ذلك رجال طهران، والخطورة فيه هو أنّه ساحة مرتبطة بغضب إيران مما يحدث في سوريا، كما بأجندات فلسطينية سائبة لا علاقة لها بتحرير فلسطين وإنما بالمزايدات الخرافية باسم المقاومة.
تحذير السعودية وثم الدول الخليجية لرعاياها في لبنان الأسبوع الماضي أثار الرعب لدى المواطنين، إنما ليس لدى رجال السلطة في لبنان الذين دفنوا رؤوسهم في الرمال كالعادة وأصدروا المواقف "المطمئنة" بتجاهل تام للمخاطر الأمنية في المخيمات الفلسطينية، والتي كانت المحفّز للتحذيرات الخليجية لرعاياها. فالخلافات الفلسطينية المسلّحة في المخيمات ليست سطحية وإنما هي معركة نفوذ وسيطرة بين "فتح" من جهة وبين "حماس" والفصائل الإسلامية الأخرى، في بلدٍ يجلس على بركان. سلاح الفصائل الفلسطينية التي تستغل مخيمات اللاجئين خارجة عن سلطة الدولة شأنها شأن سلاح "حزب الله" الذي يتحدّى سيادة الدولة ويمضي بتنفيذ ما تريده إيران في لبنان.
مصادر ديبلوماسية خليجية اشترطت عدم ذكر اسمها، قالت: "لم نتلقَ أيّة بوادر إيجابية من "حزب الله" بعد الاتفاقية" الثنائية السعودية- الإيرانية "والدليل هو تصريحات" الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصرالله، و"استمرار الحزب برعاية عناصر يمنية وعراقية" كما بكونه "المعرقل الأساسي الأساس".
الدول الخليجية، والعربية عامة، تقول للبنان إنّ الانهيار حتمي إذا استمرت الزمرة المتحكّمة بألاعيب المقايضات والصفقات لانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة وتعيين حاكم للبنك المركزي. سخافة بعض اللاعبين تلاحق نرجسيتهم فيما "حزب الله" ينسّق ضمن ما يسمّيه "الثنائي الشيعي" لنظامٍ جديد يكفل له رسمياً شرعنة ما حصل عليه بقوة السلاح. الدول الخليجية، بالذات السعودية، تريد العودة إلى تحصين مضامين اتفاق الطائف وعدم التفريط بميثاق الوفاق الوطني وصلاحية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
يقول أحد الديبلوماسيين الخليجيين المعتمدين لدى لبنان، إنّ آليات الحلول هي في صلاحية الرئيس المنتخب "فهو من يدعو إلى طاولة حوار بموجب جوهر الطائف"، وهي في "معادلة الشراكة الوطنية القريبة من مقولة رئيس وزراء لبنان الأسبق تقي الدين الصلح، إنّ استقلال لبنان مسؤولية مسيحييه، وديموقراطيته مسؤولية مسلميه".
يضيف الديبلوماسي الخليجي، أنّ الإطار العام في النظر إلى هذه الأزمة هو في العمق العربي للبنان، وأنّ آلية الحل تقتضي النظر إلى الأزمة من الجانب السياسي وليس الاقتصادي فقط. بكلام آخر، على لبنان إعادة النظر في أولويات سياساته الخارجية وليس بمجرد النواحي الاقتصادية من علاقاته بالخليج. إنّه ما زال تحت قبضة إيران التي تمعن من خلال "حزب الله" تشديد الخناق عليه.
ماذا يريد "حزب الله" من رئيس الجمهورية الآتي؟ يريده له، وبضمانات. قد يقبل الحزب بقائد الجيش جوزف عون رئيس تسوية- وهو المقبول خليجياً وأميركياً ولدى قطاعات لبنانية مهمّة- لكن ما يحاول أن يضمنه الحزب من قائد الجيش في المقابل قد يكون مكلِفاً له لدرجة الاستحالة. امتحان قيادة الجيش، كما حدث في الكحالة بعدما هوت شاحنة محمّلة بسلاح "حزب الله" على "الكوع" الشهير، إنما يعرّي ما يريده الحزب.
هنا تدخل المعادلة الإقليمية على الاعتبارات المحلية اللبنانية والتي لعلّها تؤدّي بالأمين العام لـ"حزب الله" أن يتواضع قليلاً ويرضى بأقل من إخضاع رئيس الجمهورية وقائد الجيش له. فإيران، أو بعض رجالها، لا يريدون أن يوصف تسلّطهم على لبنان بالفجور، وهم في الوقت ذاته ليسوا مرتاحين بما يحدث في سوريا، حيث العلاقة الإيرانية مع روسيا في توتر نسبي، وحيث الولايات المتحدة وتركيا في تقارب واضح، في حين أنّ روسيا تزداد حاجة إلى تركيا وهي جاهزة للتساهل معها في سوريا- وهذا يزعج إيران.
هذه الاعتبارات الجيو- سياسية ليست عابرة بل إنّها في صميم صنع السياسات داخل المؤسسة الإيرانية الحاكمة التي تعاني بدورها من تململ داخل صفوفها بسبب السياسات الكبرى، على نسق الاتفاق مع السعودية. فهناك في طهران من لا يرضى بتثبيت السعودية في الزعامة السنيّة وتوطيد الدور السعودي كلاعب إقليمي، بل ودولي أثبت أهميته أخيراً في قمة جدّة لإيجاد حل لحرب أوكرانيا، حضرتها أكثر من 40 دولة تشمل الصين والهند، برغم مقاطعة روسيا لها. هذا المعسكر يريد الاحتفاظ بورقة "حزب الله" الثمينة في لبنان لغايات تخريبية على الاتفاق مع السعودية لاحقاً.
ما هو مدى نفوذ هذا المعسكر في المؤسسة الإيرانية الحاكمة؟ ما زال الوقت مبكراً للحكم النهائي، وبالتالي ليس لدى الدول الخليجية وبالذات السعودية الأوهام حول تغيير جذري نهائي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو انقلاب على عقيدتها. هناك مراقبة سلوك في البحار بأمل إثبات حسن النوايا وتماسك القرارات الإيرانية وعدم تهديد الملاحة. العبرة في التنفيذ إن كان في عدم التصعيد في اليمن، أو بعدم زيادة تخصيب اليورانيوم لاستخدامه في صنع السلاح النووي.
التعاون الاقتصادي الكبير بين السعودية والدول الخليجية عامة وبين إيران، مرهون برفع العقوبات الأميركية والدولية عن طهران المتعلقة بالمسألة النووية. لا يبدو أنّ هناك اتفاقاً نووياً قريباً، وإنما هناك صفقات تفيد بتعهّد إيران بعدم زيادة التخصيب والإفراج عن المحتجزين الأميركيين مقابل الإفراج عن الأرصدة لدى جهات ثالثة.
الأوروبيون منزعجون من هذه المقايضات والصين غير مرتاحة لأنّها تريد العودة الى الاتفاق النووي، وكلاهما لا يريد إقحام مسألة الرهائن على الاتفاق النووي. إنما عملياً، لا يبدو أنّ الاتفاق النووي قابل للإحياء قبل الانتخابات الأميركية، وبالتالي لن تكون إيران قادرة على الاستفادة من رفع العقوبات قريباً.
تأثير الحالة الاقتصادية الإيرانية الحرجة لن يكون داخلياً حصراً وإنما سيؤثر على نشاطات أذرعها ونشاطاتها المباشرة- وسوريا مثال. طهران تراقب الأداء العربي نحو سوريا، وسيكون هناك اجتماع قريب للجنة العربية التابعة لجامعة الدول العربية لمتابعة اتفاقية "خطوة بخطوة" لإعادة تأهيل سوريا بصورة متكاملة. وبالمناسبة، أكّد مصدر خليجي أنّ ما قيل حول انتكاسة في العلاقات السعودية- السورية كجزء من الأسباب وراء تحذير الرعايا السعوديين في لبنان "ليس صحيحاً على الإطلاق".
قريباً، يُفتَرض أن يزور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وستكون سوريا حاضرة في المحادثات ليس بما تشتهيه طهران. أردوغان سيكون متصّلِباً بعدما حصّن نفسه في حلف شمال الأطلسي "ناتو"، وهو يريد أن تكون يده طليقة في سوريا ويريد من بوتين ألاّ يتدخّل- وفي المقابل لما يحتاجه بوتين حاجة ماسّة من أردوغان وهو مرور البضائع الروسية عبر تركيا. سيكون على بوتين أن يتبنّى الليونة أمام تصلّب أردوغان الذي يريد استئناف صفقة الحبوب مع أوكرانيا، ويريد حرّية التصرّف في سوريا- والأمر لا يعجب طهران التي وعدت الرئيس السوري بشار الأسد بتحرير كل الأراضي السورية مع بقائها وحدها كلاعب إقليمي عسكري في سوريا. هذا لن يحدث لأنّ روسيا لم تعد الشريك القاطع لإيران في سوريا، بعدما فرضت عليها الحرب الأوكرانية إعادة خلط الأوراق والقبول بما لم تكن مستعدة لقبوله لجهة مطالب تركيا في سوريا. فتركيا مستفيدة وإيران قلقة ومنزعجة لأسباب عدة.
أحد هذه الأسباب يعود الى إصلاح العلاقة التركية مع دول حلف "ناتو" وعلى رأسها الولايات المتحدة. ثم إنّ إدارة الرئيس جو بايدن انعطفت تماماً في علاقاتها مع السعودية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية غير مرتاحة أمام صعود الدور السعودي اقليمياً ودولياً وسط الانفتاح الأميركي الكبير على الرياض رغم أنّ القيادة السعودية رفعت السقف للتواصل وللتوصل إلى تلك "الصفقة الكبرى" المطلوبة أميركياً.
قادة إيران يدركون أهمية انعطافة إدارة بايدن بعيداً عمّا كانت إدارة باراك أوباما قد فعلته بانعطافتها نحو إيران في شبه عداء مكشوف للدول الخليجية العربية. رجال بايدن هم أنفسهم رجال أوباما وليسوا من إدارة جمهورية أو رجال دونالد ترامب. هذا مفيد جداً للسعودية لأنّ ما تفاوض عليه لتعزيز التعاون الأمني والعسكري والاستخباراتي والاقتصادي والتكنولوجي ستكفله إدارة ديموقراطية. وهذا أسهل على السعودية مستقبلاً مهما أتت به الانتخابات الرئاسية، علماً أنّ العلاقات السعودية مع الإدارات الجمهورية كانت أفضل من تلك مع الإدارات الديموقراطية في معظم الأوقات.
أهم عناصر "الصفقة الكبرى" يتعلّق بالعلاقات الأميركية- السعودية حيث مطالب الرياض عالية جداً، وهذا يثير قلق إيران التي لا يلائمها نمو الوزن السعودي لدى الولايات المتحدة كما لدى الصين والهند وروسيا وغيرها.
ثم أنّ موضوع فلسطين لطالما استخدمته الجمهورية الإسلامية الإيرانية للمزايدة على العرب وتخوينهم، لكن الموقف السعودي المتماسك نحو العنصر الفلسطيني في "الصفقة الكبرى" يكاد يزعج طهران، لاسيما رجال "الحرس الثوري" الرافضين لمبدأ التنازلات بموجب الاتفاقية السعودية- الإيرانية التي تضمنها الصين. فهم يصرّون على استخدام ورقة الفصائل الفلسطينية وورقة "حزب الله" لإثبات وجودهم وإبراز قدراتهم عبر الساحة اللبنانية، ولإبقائه هشّاً قابلاً للانفجار.
"حزب الله" ليس وحده حليف "الحرس الثوري" في الصفوف اللبنانية، بل إنّ تهافت جزء من المسيحيين على رئاسة الجمهورية جعل منه حليفاً عضوياً لمؤسسة عسكرية إيرانية تفرِّخ الميليشيات والقوات غير النظامية في لبنان لمصلحتها، وعلى حسابه.
كان هناك بعض الأمل بانعكاس التفاهمات السعودية- الإيرانية بقفزة نوعية في لبنان، كما كان هناك رهان على قدرات اللجنة الخماسية المكلّفة الملف اللبناني وتتكوّن من الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر. كلاهما ما زال وارداً. وقد بدأت دول "الخماسية" تفكّر بما يتطلّبه إصلاح أداء الطبقة السياسية في لبنان من عقوبات وإجراءات.
فرنسا لعبت دوراً سيئاً لربما لم تكن تقصده وإنما هو نتيجة أسلوبها الديبلوماسي المتخبط بمزيج من الجهل والتعالي والصفقات- لكنها بدأت بالاستدراك. إدارة بايدن بدورها لعبت أدواراً ساذجة في لبنان نتيجة قرارات ديبلوماسية كما لأنّها اعتبرته ملحقاً وليس الأساس سوى عندما ساهمت في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل- ولا يجوز التقليل من أهمية ذلك الإنجاز، ولا من المؤشرات لضغوط آتية.
السعودية ومصر وقطر تبذل جهداً كبيراً، إنما قد حان الوقت لإجراءات صارمة أكثر نحو الأطراف اللبنانية، ولحديث جدّي مع القيادة الإيرانية في شأن "حزب الله". ذلك أنّ تأجيل هذا الحديث قد يأتي في أعقاب تحوّلات مصيرية على نسق "لو كنت أعلم" والتي دمّرت لبنان.