: آخر تحديث

جدلية المصالح تحت سقف نظام عالمي جديد «للتاريخ كلمة»

16
22
14
مواضيع ذات صلة

وسائل إعلام كثيرة تتناول الصراع بين الكبار على أرض أوكرانيا، وجلها تلك الموجهة من قبل الناتو والمتطوعة من قبل أصدقاء الناتو، وهي تركز كثيرًا على شخصيات بعينها وبالأخص الرئيس الروسي بوتين، وكأن الذي يحوم في ساحة الحرب وساحات السياسة ومراكز المال هي ضحية هذه الشخصية الخارجة عن المألوف والمتمردة على المألوف، موحية بأنه كالمجنون الذي يعبث بمصير البشر، وكأن بوتين هو كل روسيا حكومة وشعبًا، وبالمقابل كأن الطرف الآخر بريء من كل ما يجري، رغم علمه اليقين أنه ليس ذاك الذئب البريء من دم يوسف على أرض أوكرانيا.

الأقوال حول بوتين كثيرة ومتناقضة، وهي من جمهرةٍ مُوَجَّهَةٍ وإعلامٍ مُوَجِّهٍ.. في اعتقادي أن كل ما يقال عن بوتين غير مهم كان سلبًا او إيجاباً، ولكن المهم هو المحصلة التاريخية التي ستخرج بها روسيا من هذا الصراع التاريخي ذي الوجهين … الوجه الأول هو حماية روسيا من مخططات الناتو وقيادتها القطبية التي تسعى الى إخضاع روسيا وجعلها دولة ثانوية، وإذا اقتضى الأمر تفكيكها وخلع أنيابها النووية، وبالنتيجة إشغالها بنفسها في حدود جغرافيتها وقدراتها الذاتية من أجل ديمومة بقائها الطبيعي، حالها حال أي كيان بيولوجي حي، لا أكثر ولا أقل، وهناك دول كثيرة تعيش منغلقة على ذاتها ليس لها أي دور لا دولي ولا إقليمي، وهذا ما تريده الناتو لروسيا وغير روسيا، كدأب أية قوة تلبس تاج السلطة المطلقة. أما الوجه الآخر هو ضمان الوجه الأول (حماية روسيا)، أي أن الوجه الأول لا يكتمل دون الوجه الآخر، وهو العمل على تغيير القطب الواحد الى أقطاب عديدة، وتغيير ميزان القوى في العلاقات الدولية، والخروج بميثاق جديد يراجع ويحسن مما يسمى بالقانون الدولي الذي ينظم العلاقات بين الدول. وقاعدة الوجهين هي أن روسيا دولة واسعة جغرافيًا ومتقدمة علميًا وتكنولوجيًا وغنية بمواردها الطبيعية ومكتملة بقدراتها البشرية وقوية عسكريًا وتملك ترسانة عسكرية تستطيع أن تدمر العالم مثلها مثل أمريكا، فهي ليست فقط منافسة لأمريكا بل إنها في مستوى أمريكا من حيث القوة العسكرية والقدرات التي تؤهلها لتبوء مكان القطب الموازي لأمريكا.

والجانب الروسي، وكذلك الصيني والهندي، يدركون جيدًا أن ذهنية القطب الواحد لا تطمئن الى أية قوة أخرى مؤهلة أن تكون منافسة لها حتى وإن كانت تلك القوة في حال سبيلها، إذ ترى قوة القطب الواحد أن «حالَ السبيلِ» هذه هي اليوم وليس غدًا او بعد غد، فمن الأولى بتر تلك القوة قبل تغير «حال السبيل» وتَوَلُّدِ الطموح فيها.

مع سخونة الصراع أخذت الأطراف المتصارعة تلمح الى احتمالية إخراج البعبع النووي من مكامنه وإعداده للانطلاق في حال انزلاق الصراع الى النقطة الحرجة التي لا رجعة بعدها، وهذه هي تلك اللحظة المحملة بالقشة التي ستكسر ظهر البعير.

لا شك أن الانسان حذر ويعد نفسه في الظروف الصعبة لما هو الاسوأ، ولكن هذا لا يعني أن الاسوأ حتمي، بل مجرد إعداد النفس لمواجهة «عَلَّ وعسى». كذلك لا نشك أن الانسان، رغم نزعاته العديدة والمتناقضة ورغم هوسه الاستفراد بالقوة ورغم ميله الى المغامرة في بعض الظروف الحالكة، إلاّ أن ملكة العقل عنده تتحفز في اللحظات المصيرية حفظًا للمصير وليس تدميرًا للمصير، مما يعني أن الصراع آيل في مرحلة لاحقة الى الاسترخاء والتراجع وعودة المتصارعين الى ثكناتهم دون نية العودة الى ساحة الصراع. عندما يتيقن الطرفان أن المواجهات العسكرية صارت أقرب الى العبث المدمر وإنه لا طائل منها، وإن الحكمة تقتضي ضرورة الجلوس على مائدة التفاهم، والخروج بمحصلة لا منتصر ولا مهزوم، بل قلب صفحة جديدة في العلاقات الدولية. بعد الاسترخاء العسكري يصبح الوضع الدولي مؤهلًا لتحولات جذرية في طبيعة العلاقة بين الدول العظمى والدول المستقلة والدول التي تدور في فلك الدول العظمى.. أول نتيجة للمحصلة التاريخية هي تشكل الدول العظمى، أي اقطاب العالم، وهي أمريكا وروسيا والصين، طبعًا مع تراجع أمريكي الى القبول بتعدد القطبية، وتخلخل أوروبا الى دول مستقلة ودول تدور في الفلك الامريكي. ومن ميزة هكذا تعدد أن يتيسر الأمر لبقية دول العالم أن تكون أكثر استقلالية دون خوف من الابتزاز او التهديد. الأفق الذهني للانسان، وهو يتابع هذا الصراع التاريخي، متيقن أن صفحة جديدة من الصراع ستفتح بعد انتهاء الصراع القائم.. الصراع باقٍ بالرغم من طبيعة النتائج، ولكن سوف تتغير معادلة الصراع بعناصرها الثلاثة وهي الاقتصاد والسياسة والحرب. وبعد ذلك ما مصير البشرية من حيث استمرار الحروب او تراجع وتيرة الحروب، او، وهو المؤمل، رجحان كفة الدبلوماسية والسياسة مقابل كفة الحرب، وماذا عن النمو الاقتصادي العالمي، وماذا عن النظام المالي العالمي، وماذا عن الدول ذات الانظمة الاستبدادية وكيف يتم التعامل معها، بعد تشكل النظام العالمي الجديد المتعدد القطبية.. هذه قضايا تنتظر النظام العالمي الجديد الذي مازال في مرحلة المخاض. إذا لم يتم النظر في هذه القضايا بجدية وبنظرة تقدمية وبروح انسانية، فكأننا نراوح في مكاننا وتدور رحى الأحداث على هوى ما ورثناه من تاريخ مثخن بالجراح.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد