منذ خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم والعلاقات العربية العربية والعربية الاقليمية، تسير في مسارات من الشك والتصدع والمؤمرات والانقلابات العسكرية والجمهوريات التي قامت على انقاض الملكيات العربية في العراق والاردن ومصر وسوريا وليبيا والملكيات والامارات الصامدة امام المد الثوري والتنظيمات البعثية والشيوعية والقومية، حتى وصلت المؤامرة قمتها في الربيع العربي قبل اثنتي عشر عامًا لتواجه ازمات متعددة ومركبة على كافة المستويات لتنتج أوضاعًا ضاغطة سياسيًا واقتصاديًا وابعادًا تسير نحو المجهول وسط الازمات الجديدة التي تتجدد على مستوى الغذاء والطاقة والبيئة والتوتر والتنافس الدولي على خلفية الحرب في اليمن والاوضاع في سوريا والصراع بين الاشقاء في السودان والحرب الروسية الاوكرانية.
لتأتي قمة جدة التي تشهد عودة سوريا الى الحضن العربي كقوة دفع للعمل العربي المشترك وانهاء معاناة الشعب السوري وإعادة الثقة في العلاقات العربية العربية والانطلاق نحو المستقبل الجديد تحت شعار توحيد الصف بشكل منهجي جاد وبآليات فاعلة جديدة من أجل تحقيق الاهداف العربية المشتركة.
في التاريخ هناك العديد من القرارات الخطأ التي اتخذها السياسيون او قادة الدول أدت الى تغييرات جذرية، ألغت أمم وشعوب من الخارطة وغيّرت المواقع والحدود الجغرافية لتحقيق أهداف استراتيجية مرسومة مسبقًا على خارطة العالم، كاتفاقية سايكس بيكو نوفمبر 1916 بين بريطانيا وفرنسا وروسيا بعد نهاية الحرب الاولى وتم فيها تقاسم وتوزيع منطقة الهلال الخصيب في الوطن العربي وقرار الحكومة البريطانية بوعد بلفور نوفمبر عام 1917 بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وهي الامبراطورية التي كانت تستعمر العالم ولا تغيب الشمس عن أراضيها وقرار غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003 بناءً على استراتيجية أمريكية استهدفت إسقاط نظام صدام حسين لأنه يهدد إسرائيل واتخاذ معلومات غير صحيحة بامتلاكه للاسلحة النووية حجة للغزو، والعديد من القرارات المختلفة التي اتخذتها القوى الدولية في العالم لتحقيق أهدافها واطماعها في افريقيا وآسيا والوطن العربي الذي لم يزل يعاني من وعد بلفور منذ أكثر من سبعين عامًا وعدم التوصل الى الحل السياسي للصراع العربي الاسرائيلي الذي لم يزل قائمًا.
وفي نفس السياق والاهتمام وكما تضمنته تصريحات جلالة الملك المعظم من أن قمة جدة للدول العربية جاءت «لتقوية التضامن العربي ومناسبة لتبادل الرأي والتشاور والتنسيق المشترك وكل ما من شأنه دعم مسيرة العمل العربي المشترك وتحقيق تطلعات شعوبنا الشقيقة في توحيد الجهود وتقوية التضامن والتكاتف العربي لمواجهة التحديات وحماية مصالح ومكتسبات دولنا العربية وترسيخ دعائم السلم والامن والاستقرار في وطننا العربي». انتهى
وأضيف هنا.. وتصحيح أخطاء القرارات التي اتخذها وزراء الخارجية العرب بتجميد عضوية سوريا من الجامعة العربية الذي أعتقد بأنه كان كارثة سياسية كبرى ارتكبتها الدول العربية بحق الشعب السوري الشقيق وزادت من آلامه ومعاناته.
ومن حسن الطالع أن تعقد القمة العربية في جدة لتصحيح المسار الذي بدأ قبل اثنتي عشر عاماً من اقصاء سوريا وشعبهم العربي الاصيل من حضن امته العربية. لذلك فأن أهمية عقد القمة في السعودية يأتي لاعتبارات عدة منها:
1- السعودية هي ثقل الأمة العربية الوحيد مهما حاولت اي جهة كانت الانتقاص من هذا الدور والدليل على ذلك ان الرؤساء الامريكيين منذ ولاية الرئيس أوباما والرئيس ترامب والرئيس الحالي بايدن كلهم يتخذون من الرياض اول محطة سفر لهم بعد مائة يوم من استلام الرئاسة بعد الفوز بالانتخابات وذلك على الرغم من كل النقد اللاذع والهجوم غير المقبول او المسبوق اثناء حملاتهم الانتخابية لدرجة أن الرئيس بايدن اعتبر السعودية دولة منبوذة و زارها من أجل مصالح بلاده لتخفيض أسعار النفط بالضغط على مجموعة اوبك بلس ولم يتحقق له ذلك.
2- السعودية دولة مهمة ولها دور محوري في مجموعة العشرين التي يتم فيها النقاش والتشاور حول قضايا أساسية تخص الاقتصاد العالمي خارج الامم المتحدة.. دولة بقيادة شابة وفكر جديد وضعت مصالح المملكة والشعب السعودي فوق كل الاعتبارات، قيادة تعرف تمامًا كيف تتعامل مع الضغوطات السياسية والاقتصادية في ميدان لعبة الأمم.
3- السعودية هي قلب الأمة العربية والاسلامية النابض كونها مركز الوحي والرسالة المحمدية والحج والعمرة لمكة المكرمة والمدينة المنورة، وهذا يجعلها وبصورة طبيعية بلدًا قائدًا لأنها تمسك بكافة خيوط المناورة في الشرق الاوسط دينيًا وروحيًا وسياسيًا واقتصاديًا وليس هناك من يستطيع منافستها إطلاقا على الرغم من كل المؤتمرات وبث الفتنة والتعصب ومشاريع التطرف والعنف والإرهاب وإرهاب الدول والتهديدات التي تعرضت لها طوال تاريخها من بعض الأشقاء وحلفائها التاريخيين.
أما لماذا اتحدث عن السعودية وعلاقة ذلك بالقمة العربية فيعود الى مناسبة القرار العربي بعودة سوريا لعضوية الجامعة العربية وأهمية القمة العربية التي عقدت في جدة لمد جسور الثقة المتصدعة بين الدول العربية وكيف سيعالج العرب موضوع الحل السياسي في سوريا الذي لم يزل قائمًا ويبحث عن التسوية الشاملة بين مواطني الشعب السوري على أساس اتخاذ إجراءات متوازنة وقابلة للتحقيق نتيجة الوضع المعقد نظرًا للوجود الروسي والايراني وبعض فلول من الجمعيات الإرهابية على التراب السوري. خاصة وإن القرار الذي تم اتخاذه بتعليق عضوية سوريا في 16 نوفمبر 2011 كان قرارًا متسرعًا كغيره من القرارات العربية التي اتخذت في تلك الفترة من تاريخ الأمة العربية وغيرها من القرارات التي اشرت اليها كما في بداية المقال. ومن تلك المعطيات يمكننا القول:
أولاً: تجميد عضوية سوريا بالجامعة العربية في 16 نوفمبر 2011 بإجماع الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية كان قرارًا سياسيًا متسرعًا، لأنه صدر عن وزراء الخارجية العرب بدلا من القمة العربية، وجاء القرار بضغط أمريكي على بعض الدول العربية. الأمر الآخر في هذا القرار إنه فتح أبواب التدخل الخارجي في سوريا، وأدى الى انتشار ايراني طائفي على أراضيها وتوغل في صفوف شعبها العربي وتبديل المذهب من أجل دولارات زهيدة، في الوقت الذي كان من الممكن التوصل الى حلول سلميه مع النظام السوري الحاكم قبل التدخل او استخدام القوة. أما الأمر الثالث فهو تدخل جماعات إرهابية مقاتلة داخل سوريا مدعومة من عدد من الدول العربية لمواجهة قوات الأمن السوري في المدن السورية التي احتلوا مساحات كبيرة من مدنها وأراضيها وأدت الى تدخل القوات الايرانية والروسية بدعوة من سوريا مقابل الحصول على نفط بأسعار رخيصة من ايران وحفنة مليارات من روسيا إيجارًا لقواعدها على الاراضي السورية،
ثانيًا: من تداعيات القرار العربي في عام 2011 إن يصبح قرار دعوة للتدخل الروسي والايراني وتمركزها في سوريا وحصولهما على قواعد عسكرية ثابتة على ترابها الوطني ثمناً للدفاع عن النظام القائم الذي استطاع أن يصمد اثنتي عشر عامًا أمام كل الصراعات والدماء والخراب التي حل بالشعب السوري الشقيق.
وقد مكن الوجود الايراني في سوريا من تعزيز قوة حزب الله في لبنان وسيطرته على لبنان بصورة تامة حتى يومنا هذا، كما استطاع الوجود الروسي في سوريا من تحقيق حلمه في انشاء قاعدة لقواته البحرية على مياه البحر الابيض المتوسط، وهو حلم من ذهب قدمه الربيع العربي الى جانب فتح سماء سوريا وانتهاك أجوائها وسيادتها الوطنية بصورة شبه يومية للطيران الاسرائيلي لضرب القوات الايرانية وحزب الله في سوريا ولبنان.
أعتقد إن قمة جدة فرصة كبيرة لتستعيد الدول العربية مكانتها ودورها في إعادة بناء نفسها من جديد وذلك من خلال أن يكون لها دور في حل مشاكلها أولاً وتقوية أسس جبهتها الداخلية وتطوير مناهجها التعليمية والعلمية ورصد الأموال للبحوث العلمية واحترام حقوق الانسان وحرية الرأي والتعبير والعدالة والمساواة والقانون.
ونظرًا لكونها من أكثر الدول تضررًا في محيطها الاقليمي بسبب الأزمات الدائرة فيه، فإن من مصلحتها أن تعمل على تعزيز مكانتها انطلاقًا مما تملكه من أدوات لتسوية هذه الأزمات بالاتفاق والتنسيق مع الدول ذات العلاقة والدول الكبرى المؤثرة بما يساعد على حمايتها كدول عربية مستقلة من التهديدات ويعيد لها أمنها المفقود منذ عقود طويلة.

