: آخر تحديث

لا نهجَ إلّا اتّباع الأصول

40
30
37
مواضيع ذات صلة

أينتهي الكلام في الإبداع؟

هل يمكن اختزال الإرث الفني والأدبي في مقالٍ أو في كتاب؟

أليس التراث فضاء لا حدود له ولا جهات ولا مدى منظورًا؟

مهما توغلنا في البحث والتدقيق والاكتشاف، يبقى الكثير أمامنا لبحث وتدقيق واكتشاف. خصوصًا إذا كان دأبنا التركيز على الأصول وما ينبت على حواشيها من طفيليات طارئة لا تجمع حولها سوى الغبار. لكن الغبار تذروه أول هبة ريح أما الأصول فراسخة الجذور كنخلة باسقة باعتزاز، لا تهزها ريح ولا يمس جذورها اقتلاع.

الأصول؟ هذا هو المدخل. والتمسك بالأصول هو النهج: أصول الأخلاق والمبادئ والقيَم والإبداع للسير مع كل عصر والمعاصرة من ضمنها.

التجديد يكون من قلب الأصول لا من خارجها، يَصدر عن جذع أصيل طالع من جذور الإرث، وبـ"الإرث" أعني الأصول التي سنّها الروّاد عن خبرة وتَجربة وطول اكتساب، نعي طبعًا ألّا نتحنّط في التمسّك بأصول كانت في زمانها لازمة وباتت اليوم خارج العصر، إنما نعي كذلك أن الخروج الأرعن على الأصول يؤدّي إلى نتاج لقيط وهجين لم يستكمل فترة الحمْل الطبيعية. فكيف، مثَلًا، يكون مَمنوعًا أيّ خروج على الأُصول في الطب والعلْم والهندسة والقانون، ويكون مسموحًا في الأدب؟ هناك، الرقم سيّدٌ لا يقبل الجدل. وهنا، الذوقُ اصطلاحٌ قد يقبل الجدَل. ومثلما الرقم يَضبُط فيَحسُم، كذلك للذوق معيارٌ يضبط فيَحزُم، آتٍ في أصوله من منطق الرقم. وكلّ ما لا ينضبط في معيار، ينفلت إلى فوضى، فلنعتمد منطق الرقم الصارم حزمًا ضابطًا معيارَ الذوق للبقاء في نعمى الأصول.

من هذا الحزم مثلًا أَن الشعر غيرُ النظْم، بل الشعر أسْوأُهُ النظْم وأبلغُه ما خلا من التذكير بالنظْم. النظْمُ مرساة القصيدة، يختفي عميقًا في قعر القعر فلا يَظهر بل تظهر القصيدة على وجه الحالة ثابتة بهية في جمال منظور بفضل المرساة غير المنظورة.

والنثر غير السرْد، بل النثرُ أسْوَأُهُ السرد التقريري، وأبلغُهُ ما خلا من السرْد. السرْدُ أرضيّة يقف النثر عليها لينطلقَ منها في فضاءات تتدرَّج من المباشر المسطح، إلى الأدب المشغول، إلى النثر الجمالي الفني، في قلائدَ غيرِ "منظومةٍ قصائدَ" لتكون عِقْد شعر، وإنّما هي "منثورةٌ نضائدَ" في ذوق نثريّ تركيبيّ هو في ذاته فنّ فخم أنيق.

للنثر درَجات، كما للشعر درجات. أعلى درجات النثر لا تَجعله شعرًا بل تُبقيه نثرًا فنيًا عاليًا راقيًا صعبًا لا يؤْتى لأيِّ ناثر، وأدنى درجات الشعْر لا تجعلُه نثرًا بل نظْمًا باردًا باهتًا لا شاعرية فيه. إنّ استعارة كلمة "شعر" أو كلمة "قصيدة" لنص نثري، إهانة للنثر كما لو أنّ النثرَ قاصر عن الإبداع إلا إذا قيس بِمقياس الشعر، وإهانةٌ للشعر إذ لن يقبل في حرَمه نصًّا نثريًا مهما تأنَّق إبداعًا في نثريته.

هكذا، لا تكون قمةُ الشعر أعلى، ولا قمةُ النثر أعلى. بل تتساويان في الإبداع والأُصول. كلتاهما قمة في ذاتها تصعُب على من يَنشد بلوغَها ويشرِّفُه بلوغُها.

وهنيئًا لمن يصقل شعره ونثره فيُعطى، في شعره ونثره، نعمة الإبداع في القمّتين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد