: آخر تحديث

الاقتصاد العالمي تحت ضغوط الحرب

38
37
41
مواضيع ذات صلة

على ساحة الاقتصاد العالمي كل شيء تقريبا بات مرتبطا بالشكل الذي ستصل إليه الحرب الروسية ـ الأوكرانية، إضافة طبعا إلى الفترة الزمنية لها. فهذه الحرب التي تم فيها التلويح بـ"النووي"، لن تكون عابرة، لأسباب عديدة، في مقدمتها تمسك الأطراف المعنية مباشرة بمواقفها، على الرغم من أن قنوات الاتصال لا تزال حاضرة في الميدان. إلى جانب النقطة الأهم، وهي تلك التي تتعلق بموقف حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ليس فقط خلال الأزمة، بل أيضا إلى ما بعدها. والواضح أن الوضع الذي كان سائدا قبل الأزمة الروسية - الأوكرانية، لن يبقى على ما هو عليه بعدها. هكذا هي الحروب بشكل عام، فكيف الحال بحرب بلغت حدا يمكن تسميته بـ"الرعب النووي"، بين أطراف كانت في الحرب العالمية الثانية جنبا إلى جنب، ضد التوسع الألماني النازي.
في ظل هذا المشهد المرتبك والخطير، يتلقى الاقتصاد العالمي ضربة قوية، وهو لا يزال يعاني الضربة الكبيرة التي أتته من تفشي جائحة كورونا. ففي العام الماضي، سجل نموا متواضعا، لكنه كان ضروريا لدفع عجلة النمو في الأعوام المقبلة بسرعة أكبر. حتى قبل انفجار الأزمة الراهنة في أوروبا بأسابيع، كان مسار هذا الاقتصاد مقبولا، بل واعدا، ما شجع الحكومات التي أطلقت حزم الإنقاذ والتحفيز، على خفض وتيرتها، بل كانت هناك حكومات أوقفتها نهائيا، لأسباب تتعلق بمحاولاتها السيطرة على التضخم الذي بلغ في الاقتصادات المتقدمة أعلى مستوى له منذ أربعة عقود. الحالة الاقتصادية على الساحة الدولية قبل الحرب الجديدة لم تكن مثالية، لكنها كانت في مرحلة انتقالية طبيعية.
الاقتصاد العالمي اليوم، وفي ظل الحرب في أوكرانيا، قد يخسر تريليون دولار، وإذا ما طالت هذه الحرب، فإن الناتج المحلي الإجمالي العالمي سيفقد 1 في المائة من قيمته بحلول نهاية العام الجاري. ويعتقد خبراء أعدوا تقريرا في المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا، بأن هذه الحرب قد تضيف 3 في المائة إلى التضخم العالمي هذا العام، وهو أمر لا يمكن لاقتصاد العالم أن يتحمله في هذه الظروف بالذات. والحرب ذاتها، بدأت بالفعل تؤثر بصورة خطيرة في الطاقة وتجارة السلع الأساسية، وسلاسل التوريد، وصادرات الحبوب ولا سيما القمح والذرة وغيرهما. ماذا يعني هذا؟ يعني أن التضخم سيرتفع بالفعل إلى مستويات أعلى مما هو عليه الآن، ويشكل خطرا على النمو الاقتصادي الهش.
من الطبيعي أن تكون أوروبا المنطقة الأكثر تضررا على الساحات الاقتصادية والعسكرية والإنسانية. فروابط القارة العجوز مع روسيا قديمة ومتجذرة، وخصوصا في مجالات إمدادات النفط والغاز. فهذه القارة تعتمد في وارداتها من الطاقة على 40 في المائة من الغاز الروسي، في الوقت الذي لم تتضح فيه الصورة بعد بشأن سد هذه الاحتياجات من جهات أخرى، إذا ما توقفت الصادرات الروسية من الطاقة تماما في مرحلة لاحقة. مع ضرورة الإشارة إلى أن البدائل المتاحة ليست مثالية على الصعيد اللوجستي. وثبت عمليا في الأسابيع القليلة الماضية، أن الغاز الأمريكي لأوروبا لا يمكن أن يكون موردا مستقرا أو مستداما أو حتى ذا جدوى، في حين أن المصادر الأخرى لا ترقى للمستوى الراهن للغاز الروسي، من حيث الكميات وسهولة التوريد.
وفي كل الأحوال، ضغوط الحرب في أوكرانيا ترتفع على مدار الساعة على الساحة الدولية، مع تفاوت في المخاطر بين منطقة وأخرى. ففي حين لا تتعرض الأسواق الناشئة لضغوط كبيرة الآن، إلا أن ذلك ليس مضمونا إذا ما تعمقت الحرب وطال أمدها، خصوصا في ظل التأكيدات الروسية على أن العملية العسكرية ستمضي حتى تحقق أهدافها. فالصراع في حالته الراهنة قلب بعض الموازين، من بينها أسواق السلع والطاقة، وقلب معه كل الاستراتيجيات التي وضعت للوصول بالاقتصاد العالمي إلى مرحلة ما بعد جائحة كورونا. صحيح أن رفع حجم الإنفاق العسكري بسبب الأزمة سيحرك الاقتصادات هنا وهناك، لكن الصحيح أيضا أن الركود التراكمي بات على الأبواب فعلا. أي أن التضخم سيضرب النمو بقوة، وسيمتص بالطبع كل مكسب حققه الاقتصاد العالمي في الأشهر القليلة الماضية.
من الصعب العثور عمن يمكنه ادعاء التفاؤل وسط التداعيات الراهنة اقتصاديا وعسكريا واجتماعيا في القارة الأوروبية. فالخسائر الاقتصادية ربما تكون أهون الأضرار، إذا ما اتخذت المواجهة منحى آخر، ولن يحمي المكتسبات الدولية والإنسانية، ويدفع بالعالم إلى مرحلة أكثر ازدهارا واستقرارا إلا الحلول السياسية، لكن من الواضح أنها ليست مطروحة على الطاولة حاليا. ويبدو واضحا أن العام الحالي سيشهد تحولات دولية كبيرة، لأن القوى الكبرى أعادت بالفعل حساباتها مع وصول الأزمة الأوكرانية إلى هذه النقطة. فلم يتوقع أحد أن ينشأ صراع بهذا الحجم بين قوى نووية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأين؟ في أوروبا مهد هذه الحرب، التي وضعت قوانينها العالمية حتى يومنا هذا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد