لا شك أن حياة الإنسان في هذا العصر باتت تعتمد اعتمادا كبيرا على العالم السيبراني، فكثير من الأعمال المهنية، والنشاطات الاجتماعية، والإجراءات الخدمية، والحوارات في شتى المجالات، وعلى مختلف المستويات، ابتداء من الفرد إلى المؤسسة حتى الدولة، باتت تتم عبر هذا العالم. وقد ذكرنا في مقال سابق ثلاثة متطلبات رئيسة للتعامل مع العالم السيبراني. وشملت هذه المتطلبات: تأهيل الإنسان سيبرانيا كي يكون تعامله واعيا وفاعلا، وتوفير التقنية للجميع حرصا على شمولية هذا العالم لجميع الناس، والحرص على المساواة الرقمية فيه، إضافة إلى تأمين بيئة تعامل سيبراني سليمة قادرة على مواجهة المخاطر، سواء المقصودة أو الطارئة عن غير قصد.
يطرح هذا المقال مسألة تأمين بيئة تعامل سيبراني سليمة على الامتداد الدولي للعالم السيبراني، حيث تلقى هذه المسألة اهتماما كبيرا من الباحثين من جهة، ومن الدول والمنظمات الدولية من جهة أخرى. فكل طرف من هذه الأطراف يسعى إلى وضع سياسات وتحديد ضوابط لحماية هذه البيئة. وتشمل مثل هذه الضوابط جانبا عاما يستهدف الحماية للجميع، وتصدر هذه الضوابط عادة عن الباحثين المستقلين، والمنظمات الدولية. وتتضمن أيضا جانبا خاصا يستهدف حماية جهة أو دولة بعينها، وتصدر عادة عن الدولة المعنية، والباحثين الذين ينتمون إليها. وتستند مثل هذه الضوابط إلى المعرفة في مجالين رئيسين هما: مجال القوانين الدولية من جهة، ومجال خصائص العالم السيبراني وتقنياته من جهة أخرى، وذلك في إطار الأهداف المنشودة للأطراف المختلفة.
وسنلقي الضوء فيما يلي على بعض المضامين المهمة الخاصة بموضوع العالم السيبراني والضوابط الدولية، عبر ثلاثة محاور رئيسة: محور تأسيسي يرتبط بالجوانب المعرفية المطلوبة التي ينبغي ملاحظتها والاهتمام بها بشأن سلامة بيئة التعامل في العالم السيبراني، ومحور يتعلق بالتوجهات المتعلقة بالضوابط المطلوبة لتحقيق السلامة المنشودة، ثم محور يركز على اتخاذ القرارات بشأن هذه الضوابط وما يتعلق بها. ولعل من المفيد في هذا المجال أن نستعين بمرجعين مهمين. عنوان أولهما: "القانون الدولي في العالم السيبراني"، وتم نشره عام 2012 في مجلة هارفارد للقانون الدوليHarvard International Law Journal. وعنوان ثانيهما: "دليل تطبيق القانون الدولي على الحروب السيبرانية"، وتم نشره عام 2013 من قبل مطبعة جامعة كامبريدجCambridge University Press.
يتضمن المحور التأسيسي ثلاثة جوانب معرفية رئيسة يجب ملاحظتها. يتضمن أول هذه الجوانب حقيقة أن الفضاء السيبراني الممكن للعالم السيبراني والمحيط بنشاطاته ليس فضاء حرا Free-Zone Space، أي: بلا ملكية أو رعاية، بل هو فضاء للجميع وعلى الجميع المشاركة في رعايته وتنظيم شؤونه. وعلى ذلك فهو يحتاج إلى قوانين دولية يتم على أساسها تنظيم شؤونه وحوكمتها، في إطار ميزان عادل يحمي مصالح الجميع. ويأتي الجانب المعرفي الثاني هنا منطلقا من هذه الحقيقة، مضيفا إليها دعوة جميع الدول إلى التنبه لها وتأييد وضع مثل هذه القوانين، والاستعداد للمشاركة في ذلك.
ويبرز بعد ما تقدم الجانب المعرفي الثالث ليذكر بوجود قوانين دولية لتنظيم وحوكمة العالم المادي، ويحث على وضع ما يماثلها العالم السيبراني، مع ضرورة مراعاة خصائص هذا العالم ومتطلباته. ولعل من المناسب هنا ذكر أن للقوانين الدولية في العالم المادي بعدين رئيسين: بعدا يتضمن ضوابط دولية عامة على جميع الدول الالتزام بها، ثم بعدا يشمل ضوابط خاصة تستطيع كل دولة أن تضعها لنفسها، انطلاقا مما تراه مناسبا لمصالحها.
وننتقل إلى محور التوجهات اللازمة للضوابط التي ينبغي الاهتمام بها في وضع القوانين الدولية. ونركز هنا على بعد الضوابط الخاصة التي تحددها الدول المختلفة لذاتها. يتمتع هذا البعد بوجود منطلقين متباعدين للتوجهات، ومجال بينهما تختار الدول مكانها فيه. هناك منطلق الانفتاح الكامل على العالمGlobal Open Policy دون قيود أو ضوابط، ثم هناك منطلق السيادة الوطنية National Sovereignty الذي يضع قيودا وضوابط على الانفتاح الكامل. وبين هذا وذاك، هناك منطلقات أخرى لانفتاح محدود ربما يتمثل في اتفاقيات، خاصة بين دول مختلفة على درجات من الانفتاح السيبراني فيما بينها. وتختلف آراء الدول والمؤسسات والأفراد بشأن هذه التوجهات. ولعل الحالة السيبرانية المثلى تتجلى في الانفتاح الكامل من أجل تواصل واسع، لكنها تتطلب مستويات مرتفعة من الأخلاقيات والعدالة والحكمة.
ونصل إلى محور القرارات الذي يتضمن تحديد ما يجب عمله لوضع الضوابط التي تمليها التوجهات موضع التنفيذ. وهناك إضافة إلى ذلك في هذا المحور مسألة المشكلات والتناقضات التي يمكن أن تبرز بين الدول، في إطار العالم السيبراني، كما هو الحال في العالم المادي التي يمكن أن تؤدي إلى حروب سيبرانية تتدافع فيها الدول بين هجوم ودفاع وتحديات متبادلة.
نتيجة لما سبق، يكون على محور القرارات أن يأخذ الصراعات في الحسبان أيضا. ويبرز في هذا المجال تعبير متداول في العالم المادي تستخدمه الدول في حروبها ويترجم عادة على أنه يعني الحرب المشروعة Jus in bello rules. والمشروعية هنا ترتبط بالمبررات على أساس الضوابط الدولية، كما تتعلق أيضا بحجم القوة اللازمة للهجوم أو الدفاع، ومسألة عدم الإفراط في استخدام القوة وإلحاق أذى مضخم في الطرف الآخر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحروب السيبرانية يمكن أن تحدث بين أطراف غير متكافئة، ربما يكون الأصغر فيها أكثر تأثيرا من الأكبر، لأنها ليست حروبا مادية، لكنها يمكن أن تؤدي إليها.
العالم السيبراني ليس ملكا لأي دولة، بل هو ملكية عامة للجميع، ويجب استخدامه والاستفادة منه لمصلحة الجميع. ويحتاج ذلك إلى قوانين دولية مشتركة تنظم متطلبات الجميع. في هذا الإطار، هناك معطيات متوافقة تستجيب لاحتياجات الجميع، لكن الأحوال الفعلية ليست كذلك دائما. فخلافات وتناقضات العالم المادي تنتقل إلى العالم السيبراني لتطلق الحروب وتؤذي كثيرين. وعلى ذلك فإن الحل المنشود يكمن في العالم المادي، حيث الحاجة إلى مزيد من الحكمة والتوافق، والوئام، وتجنب الصدام.
العالم السيبراني .. نحو بيئة تعامل سليمة
مواضيع ذات صلة