عبدالحق عزوزي
من المغالطات الكبرى المنكرة التي نسمعها أحياناً من أفواه بعض المحسوبين على أصحاب القلم عندما يتطرقون إلى مسألة التجديد في الخطاب الديني أو في الفكر الديني أنه يجب تغيير الدين بدين آخر! أو القول، إن أحكامه الثابتة القطعية يمكن أن تزال، أو يمكن التفكير في صناعة قواعد في الفهم أو التطبيق مخالفة للكتاب الذي أنزل من السماء! ولكن العلماء الحقيقيين الذين تصدوا لمسألة التجديد والإصلاح في الفكر الديني أو في السلوك أو في الخطاب في العصور الماضية القريبة، فهموا مسألة التجديد، وهي عملية الإحياء والتفعيل. والله سبحانه وتعالى ما بعث رسله ولا أنزل كتبه إلا لإحياء الأنفس ودفعها إلى البر والصلاح والاجتهاد، وما يحقق المنفعة العامة وتحقيق الخير للبشر جميعاً. ولو توقف الإنسان مثلًا عند علم المواريث في الإسلام، ونظر إليه نظرة تاريخية ومقارنة مع ما يجري في دول العالم بما فيها الدول المتقدمة كاليابان والولايات المتحدة وسويسرا، لرأى أن علم المواريث عندنا هو الوحيد الذي يشتمل على حكم كثيرة وفوائد عظيمة وقواعد عقلانية ملزمة. ولا يوجد قانون ولا تشريع آخر بمثل الدقة والتقدير الذي سطره القرآن الكريم حيث يضمن للفروع والأصول والحواشي والأقرباء حقوقهم ولا يجعل المال مكدساً بين أيدي ناس دون الآخرين ويمنع الوصية للوارث إلا بشروط ويمنع الإنسان من كتابة وصية تمنع وارثاً من الإرث، إلى غير ذلك من الأمور التي سنتوقف عندها في مقالة مقبلة.
وعندما نخلد أفكار علماء متنورين بذكر أسمائهم وأعمالهم، والعديد منهم قضوا نحبهم من أمثال محمد عبده وعلال الفاسي ومصطفى عبد الرازق والطاهر بن عاشور ومحمد إقبال وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم، فلأنهم كانوا ذوي بصيرة، ونادوا بوجوب مراعاة أحوال الزمان والمكان في تطبيق أحكام الشريعة وضرورة وجوب الاجتهاد فيها وما يتماشى مع مستلزمات الزمان والمكان... فنجد عبدالرحمن الكواكبي الذي ألف كتاباً رائعاً سماه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، يجسد موضوع الحرية فيه وقد وسمها كضرورة من ضروريات التجديد في الفكر العربي والإسلامي. وكان الكواكبي مصلحاً إسلامياً، ورائداً فكرياً من كبار دعاة التجديد الديني والسياسي. ونجد أيضاً مصطفى عبد الرزاق يساهم في عملية التجديد ليقود عملية الإصلاح الأزهري وهو أول من درس الفلسفة الإسلامية في الجامعة المصرية وهو أخو علي عبد الرزاق الذي فصل من الأزهر بسبب كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، وكتابات هؤلاء أكثر انفتاحاً وأقل انغلاقاً مما نراه ونقرؤه عن بعض السلفيين المعاصرين المتزمتين...
ونجد أيضاً في كتاب «مفهوم العقل» للفيلسوف المغربي عبدالله العروي قوله عن علال الفاسي: «كان علال الفاسي، رحمه الله، يميل إلى محاورة المخالفين له في الرأي، وتقريبهم منه، أكثر مما كان يفعل مع أنصاره أو أتباعه. كان يحرص على محاورة الشباب والاستماع إليهم. كان علال الفاسي يحاورني باستمرار، ويقرأ ما أكتبه ولو كان بالفرنسية. كان يقول لي: "أقبل منك كل أفكار التحديث والعصرنة والتجديد، لكن باسم الإسلام، وليس خارج المرجعية الدينية"، وكنت أقول له: "ومن يضمن لي أن يأتي بعدك من يردنا إلى الوراء باسم الدين، ويهدم كل ما حاولنا بناءه من فكر تجديدي بدعوى دينية ميتة؟ لا شيء يضمن ذلك، إذن، ليبقَ كل واحد منا يناضل على جبهته، أنا مع القطيعة مع الميت من التراث، ومع الانخراط في الحداثة كمكسب إنساني عام، لا فرق عندي بين الغرب أو الشرق، وأنت على جبهة الإصلاح الديني"». قبل أن يضيف: «وإن كان ظني أن أصحاب الدعوة السلفية لن يفعلوا أبدع أو أحسن مما فعله الأفغاني وعبده، وانتهت جهودهما إلى الفشل». وسواء اتفقنا مع العروي أو لم نتفق معه، فعلال الفاسي كان رجل الحوار بلا منازع ورجل قبول الآخر كيفما كان، ولم يثبت أنه نقل إلى الناس أموراً واهية، بل كان دائماً يجدُّ ويجتهد ويرجع الحقائق إلى الأصول الصحيحة المبنية على الرحمة وقبول الآخر والحوار البناء والمجادلة بالتي هي أحسن، وللحديث بقية.