اضطر الناشط البيئي فلاديمير سليفاك إلى الفرار من روسيا بعد أن صُنفت منظمته "إيكوديفينس" عميلا أجنبيا في عام 2014، وإن كانت تلك الخطوة قد جعلت حملته المطالبة بحظر الوقود النووي الروسي أكثر شراسة.
يقول سليفاك الذي يخوض حملته ضد وكالة الطاقة النووية الروسية "روساتوم" من ألمانيا: "لا أحد في أوروبا يريد أن ينظر في هذا الاتجاه".
يتعجب سليفاك من أن الساسة والإعلاميين في الغرب يشعرون بالقلق إزاء الاعتماد على الوقود الأحفوري الروسي، في حين لا يتحدث أحد عن اعتماد مماثل على الوقود النووي الروسي والتقنية النووية الروسية.
ويتساءل لماذا لا يخضع الوقود النووي الروسي لنفس النوع من العقوبات التي يخضع لها النفط والفحم؟
الاعتماد على الوقود النووي
من أحدث المظاهرات التي شارك فيها سليفاك مظاهرة نظمت في مدينة لينغين، أمام مصنع لتجميع الوقود النووي، حيث كان من المقرر وصول شحنة يورانيوم روسي.
وطالب المتظاهرون الحكومة الألمانية بإلغاء اتفاقياتها النووية مع روسيا على الفور. لكن لم تتم الاستجابة لمطالبهم.
وقال متحدث باسم الوزراة الفدرالية الألمانية لشؤون البيئة والحفاظ على الطبيعة والسلامة النووية في تصريحات لـ بي بي سي إن "هذه الصادرات تتم - كما هو الحال بالنسبة للغاز الروسي - لأن استيراد الوقود النووي من روسيا ليس مشمولا ضمن عقوبات الاتحاد الأوروبي".
المعروف أن الاتحاد الأوروبي أعلن التزامه بوقف استيراد الوقود الروسي بحلول عام 2030، ابتداء بالغاز، ولكن حتى الآن تركز العقوبات المتعلقة بالوقود الروسي على الفحم والنفط، وليس الغاز أو الوقود النووي.
وسليفاك ليس الشخص الوحيد الذي يسعى إلى تغيير ذلك. على بعد نحو 1800 كيلومترا، وبالتحديد في مدينة كييف، عكفت نتاليا ليتفين منسقة تحالف Energy Transition، وهو مجموعة من المنظمات المعنية بحماية البيئة، على تقديم التماسات لمسؤولين من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية والشركات الخاصة التي تتعاون مع روساتوم.
وتقول ليتفين: "ندرك أن القادة يعملون على وقف صادرات الوقود الأحفوري، لكن لا يمكننا القول بأن الشيء نفسه ينطبق على الطاقة النووية".
ما مدى اعتماد أوروبا على الوقود النووي الروسي؟
وتحاول البلدان الأوروبية تقليل اعتمادها على النفط والغاز الروسيين منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط عام 2022.
وأعلن الاتحاد الأوروبي أنه سوف يخفض وارداته من الغاز الروسي بنسبة الثلثين في غضون عام، لكنه لم يفرض حظرا تاما عليها.
وتعتبر روسيا لاعبا رئيسيا في أسواق الغاز العالمية، ففي عام 2021، زودت البلاد أوروبا بقرابة 45 في المئة من احتياجاتها من الغاز. ولكن نصيبها من إنتاج اليورانيوم أصغر بكثير حيث أنتجت 8 في المئة فقط من إجمالي الإنتاج العالمي في عام 2019.
لكن تعدين اليورانيوم يعتبر الخطوة الأولى فقط في عملية انتاج الوقود النووي.
ويقول الدكتور مات بوين الباحث في جامعة كولومبيا الأمريكية إن "روسيا لها وجود ضخم جدا في المرحلتين التاليتين من عملية إنتاج الوقود في الأسواق العالمية".
ولصناعة الوقود النووي، يتعين استخراج اليورانيوم من الأرض، ثم سحقه وتحويله إلى أكسيد اليورانيوم. وبعد ذلك، يُحول إلى سداسي فلوريد اليورانيوم (وهو مركب قابل للتخصيب)، والذي يستخدم أخيرا في صنع قضبان الوقود النووي.
ويقول بوين، مستشهدا بتعليق شارك في كتابته لمركز سياسة الطاقة العالمية التابع لجامعة كولومبيا: "نصيب روسيا من عمليات التحويل النووي في عام 2020 بلغ 40 في المئة، كما بلغ نصيبها من عمليات التخصيب في عام 2018 نسبة 46 في المئة".
لكن الدور الروسي لا يقتصر على تصدير الوقود النووي، إذ إن روساتوم هي أكبر مصنّع للمفاعلات النووية في العالم. وفي عام 2021، كانت تخطط الوكالة النووية التابعة للدولة الروسية لبناء أكثر من 12 مفاعلا في مختلف أنحاء العالم، من بنغلاديش إلى تركيا.
ويقول بوين إن "على الغرب اتخاذ خطوات لتقليص دور روسيا، لكن نظرا لضخامة ذلك الدور، سوف يتطلب الأمر قدرا من الاستثمارات ويستغرق بعض الوقت".
مفاعلات على الطراز السوفيتي في أوروبا
وسوف يُمثل تقليص الدور الروسي في سوق الطاقة النووية في الغرب تحديا أيضا لأن الكثير من المفاعلات العاملة وتلك التي لا تزال تحت الإنشاء تستخدم تقنية روسية.
في أوروبا فقط خلال عام 2021، كان هناك أكثر من 30 مفاعل VVER روسي.
ويرمز اختصار VVER إلى "مفاعل القدرة المائي-المائي"، وهو في الأصل تصميم سوفيتي. وفي الوقت الحالي، تعمل غالبية تلك المفاعلات بالوقود الذي تزودها روسيا به.
وتضم منشأة زابوريجيا التي تسيطر عليها روسيا في أوكرانيا، والقريبة من خطوط القتال الأمامية، 6 من بين العديد من مفاعلات VVER الموجودة في البلاد.
وتحصل أوكرانيا على نحو نصف طاقتها من مصادر نووية، كما هو الحال بالنسبة لسلوفاكيا والمجر.
ويسعى تحالف Energy Transition Coalition إلى تنبيه السلطات الأوروبية إلى أن الكثير من بلدان القارة ربما لن يكون أمامها خيار أخرى سوى الاستمرار في شراء الوقود الروسي.
وتقول ليتفين:"بلدان مثل بلغاريا والمجر لا تستطيع التحول إلى أنواع أخرى من الوقود لأنها عملية معقدة".
ويشرح سليفاك قائلا: "إذا كان لديك منشأة طاقة تعمل بالغاز أو الفحم، فأنت بحاجة فقط إلى تزويدها بالغاز أو الفحم. ولكن بالنسبة للطاقة النووية، لا يحتاج الأمر مجرد وضع اليورانيوم في المفاعل، بل إنك بحاجة إلى تصنيع القضبان النووية المناسبة لكل نوع من أنواع المفاعلات".
ويقول بوين إنه حتى لو كان من الممكن الاستعاضة عن الوقود النووي الروسي بآخر، فإن البلدان التي لديها مفاعلات VVER قد تضطر إلى مواصلة اعتمادها على روسيا للحصول على المكونات والخدمات اللازمة.
ويضيف أن تقليل الاعتماد على روسيا ليس مستحيلا، ولكن من الصعب تحديد الوقت الذي سيستغرقه ذلك.
نفوذ جيوسياسي
بعد يومين من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، أعلنت فنلندا أنها ستنسحب من عقد كانت قد أبرمته مع وكالة روساتوم لبناء ثالث منشأة نووية في البلاد. وتعللت فنلندا بمخاطر ذات صلة بالحرب في أوكرانيا.
لكن الحرب لم تثنِ المجر، وهي أيضا من الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، عن المضي قدما في تنفيذ اتفاق نووي كانت قد أبرمته مع روسيا في عام 2014. فقد أعلنت وزارة خارجية المجر في أغسطس /آب أن روساتوم سوف تبدأ في العمل على مشروع تكلفته 12.4 مليار دولار أمريكي - معظم تمويله روسي - لإنشاء مفاعلين نووين.
ويصف سليفاك روساتوم بأنها "واحدة من أهم أذرع نظام بوتين، وتستخدم لبسط النفوذ الجيوسياسي الروسي في شتى أرجاء العالم"، مضيفا أن منظمته لن تكف عن التظاهر والاحتجاج.
"إذا لم نتحدث عن القضية، إذا لم نمارس ضغوطا حقيقية على الساسة، فإنهم لن يفعلوا شيئا".
وبعد المظاهرة التي نظمتها منظمة سليفاك، إيكوديفينس، في مدينة لينغين، صرحت الوزارة الفدرالية الألمانية لشؤون البيئة والحفاظ على الطبيعة والسلامة النووية لـ بي بي سي بأنها "تنظر إلى مثل واردات اليورانيوم تلك بجدية كبيرة بسبب الحرب العدوانية التي تشنها روسيا على أوكرانيا".
وقال المتحدث باسم الوزارة لـ بي بي سي إن "روسيا لا تحتكر إمدادات اليورانيوم، ومن الممكن شراؤه من بلدان أخرى".
لكن الوزارة أضافت أن الأمر ليس بيدها، لأن "قرار شراء اليورانيوم من روسيا يرجع بشكل حصري للشركة المشغلة لمصنع اليورانيوم في لينغين"، وليس هناك آلية قانونية لمنعها إذا ما اختارت شراء الوقود الروسي.
وفيما يتعلق بعقوبات الاتحاد الأوروبي، فإن المفوضية الأوروبية هي التي لديها سلطة فرضها.
عقوبات جديدة
بعد أن أصدر بوتين أوامره بالتعبئة الجزئية، اقترح الاتحاد الأوروبي جولة ثامنة من العقوبات.
وأعلنت أورسولا فان دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية تفاصيل الاقتراح الذي يشمل تشديد القيود التجارية، ووضع المزيد من الشخصيات الروسية على القوائم السوداء، وتحديد سقف لأسعار النفط الروسي، لكن لم تكن هناك أي إشارة إلى فرض عقوبات على روساتوم.
وسوف يعرض المقترح على الدول الـ 27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لاتخاذ قرار بشأن تنفيذ العقوبات الجديدة.
وكان متحدث باسم المفوضية الأوروبية قد صرح لـ بي بي سي قبل الإعلان عن المقترح قائلا: "إننا لا نعلق مطلقا على عملية فرض عقوبات لأنها تتم بسرية وتعود بشكل كامل إلى الدول الأعضاء، التي يجب أن توافق بالإجماع في المجلس، لكن ليس هناك خيارات مستبعدة".
ويقول الدكتور بوين إن البلدان الأوروبية التي لديها مفاعلات روسية الطراز "سيتعين عليها اتخاذ قرارات معقدة" إذا ما قررت تعليق واردات الوقود النووي الروسي، وهو قطاع على الأرجح سوف يكتسب المزيد من الأهمية نظرا لاقتراب فصل الشتاء، فضلا عن اقتراب أزمة طاقة محتملة.
وقد قررت ألمانيا، على سبيل المثال، الرجوع في قرارها التخلي عن الطاقة النووية تماما (والذي صدر في أعقاب كارثة مفاعل فوكوشيما في اليابان عام 2011)، وسوف تواصل تشغيل محطات الطاقة النووية الثلاث المتبقية لديها.
ويبدو واضحا أن البلدان الأوروبية تواجه خيارات صعبة، ولكن ليتفين تصر على أن الغرب ينبغي أن يتخذ إجراءات سريعة لحظر الوقود النووي الروسي.
لقد بدأت [روسيا] حربا هائلة في أوروبا، حربا لم نشهد لها مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية. ليس هناك مجال لعقوبات انتقائية".