يوم الاثنين المقبل، الموافق لـ25 يوليو-تموز ، وهو يوم الاحتفال بالذكرى الرابعة والستين لقيام النظام الجمهوري، يتوجّه التونسيون إلى صناديق الاقتراع للتصويت بـ "لا"، أو بـ"نعم" على الدستور الذي أعدّه الرئيس قيس سعيد بهدف إقرار نظام رئاسي، بدل نظام برلماني بحسب ما جاء به دستور2014، والذي كانت حركة النهضة الاسلامية ضالعة في اعداده ليكون مُنسجما مع أهدافها السياسية والأيديولوجية.
ورغم أن قيس سعيد كلّف لجنة استشارية لإعداد هذا الدستور بإشراف أستاذه القديم في القانون الدستوري العميد الصادق بلعيد، وزميله في التدريس قبل تقاعده، الأستاذ محمد محفوظ، فإنه لم يأخذ بعين الاعتبار مسودّة الدستور التي انكبّا على إنجازه على مدى أشهر طويلة، ولم يهتم بتصريحاتهما التي احتجّا فيها على الطريقة التي تعامل بها معهما، بل سارع بنشره في الرائد الرسمي. لكن بعد مرور أزيد من أسبوع على ذلك، أعلن أن نسخة جديدة من دستوره ستصدر في الرائد الرسمي بعد اصلاح الأخطاء والشوائب الكثيرة التي "تسرّبت" إلى النسخة الأولى.
ورغم ذلك ازدادت الاحتجاجات حدة واتساعا ضده لأن النسخة الجديدة من دستوره حافظت حتى بعد الإصلاحات على جوهرها ومضمونها الذي بدا للكثيرين وكأنه يتناقض مع قيم ومبادئ الدولة المدنية والديمقراطية التي يطمح إليها التونسيون.
وإذا ما كانت النخب والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني رافضة لدستور قيس سعيد المصاغ بلغة انشائية ركيكة وثقيلة، فإن الطبقات الشعبية في الأرياف، كما في المدن سوف تصوّت لصالحه تماما مثلما صوتت بكثافة لصالح حركة النهضة الإسلامية في انتخابات خريف عام2011، معتقدة أن زعماءها "يخافون الله". لكن بعد أن عاينت أن الاسلاميين وحلفاءهم ليسوا من أبناء الله في شيء، وأنهم أفلسوا الدولة، وأغرقوا البلاد في أزمات خانقة تزداد سوءا عاما بعد آخر، فإنّ الطبقات الشعبية سوف تصوت في هذه المرة لصالح قيس سعيد لاعتقادها أنه "نظيف اليد واللسان"، وأنه سيتكفل بعد التصويت لصالح دستوره بالانتقام لها من الذين خدعوها، وفقّروها، ودمروا أحلامها وأمانيها، ونشروا البؤس والخراب في أريافها ومدنها.
والحقيقة المرة التي يتوجب الإعلان عنها هي أن دستور قيس سعيد لن ينهي محنة التونسيين، بل قد يزيد أوضاعهم تعقيدا، واضطرابا، لأن المشكلة الحقيقية في تونس منذ سقوط نظام الرئيس بن علي هي إعادة الاعتبار لهيبة الدولة ولمؤسساتها لتكون قادرة على مواجهة التحديات والمصاعب والأزمات. فعلى مدى العشر سنوات الماضية دأبت الأحزاب متمثلة بالخصوص في الإسلاميين وفي اليساريين المتحالفين معهم على ضرب الدولة الوطنية في الصميم، وتقويض أسسها لكي تسهل عليهم السيطرة عليها، وتحويلها إلى مجرد وسيلة لتنفيذ أغراضهم وأهدافهم.
وكان دستور2014 من جملة الوسائل التي استعملها هؤلاء لتفكيك الدولة. فقد فتح ذلك الدستور الذي أقر النظام البرلماني، والذي وصفه أحد زعماء الإسلاميين بـ"أفضل دستور في العالم" الأبواب والنوافذ واسعة للعبث والتسيّب والفوضى المدمرة، مُشعلا في الشارع وتحت قبة البرلمان معارك ساخنة بين النواب حول قضايا تافهة لا علاقة لها بواقع التونسيين لا من قريب ولا من بعيد، ومُفجرا خلافات واحتجاجات عطلت حركة الإنتاج، وأفلست مؤسسات صغيرة وكبيرة، وأتاحت لمحترفي العنف والجريمة والفساد والرشوة أن يمرحوا في البلاد كما يحبون ويشتهون.
لذا ما أظن أن دستور قيس سعيد، ولا أي دستور آخر سيصلح أوضاع التونسيين، ولا يمكن أن يتحقق لهم الاستقرار والأمن، ويعيد لعجلة الاقتصاد ديناميكيتها إلاّ إذا استعادت الدولة هيبتها وقوتها وقدرتها على فرض النظام، والضرب على أيدي كل من يسعى إلى النيل منها، ومن مؤسساتها باسم الحرية والديمقراطية.
وقد أكد كبار الفلاسفة على أن الدولة الضعيفة لا يمكنها أن تضمن لشعبها الأمن والاستقرار والحرية. لذا هم انتصروا للدولة القوية. وأول هؤلاؤء هو الفيلسوف البريطاني توماس هوبز (القرن السابع عشر). ففي مؤلفه الشهير :"الليفياثان" الذي أراد أن يبين من خلاله أن الدولة يمكن أن تتحول إلى "وحش" إذا ما هي انقادت إلى العنف والفوضى، وتخلت عن مسؤوليتها الكبيرة في الحد من ذلك.
وهو يشير أيضا إلى أن الحرية الفردية تتطلب دولة قوية، وإلاّ تحولت هذه الحرية إلى عامل مثير للفوضى المدمرة. كما أن الدولة لا يمكن أن تكون قوية حقا إلاّ بفرض "عقود" يتوجبّ على المواطنين احترامها، وعدم العبث ببنودها. لهذا لا بد أن يكون العنف من صلاحيات الدولة فقط، لا غيرها. أما الفيلسوف الألماني هيغل(القرن الثامن عشر) فيرى أن القوة هي أساس الدولة الحديثة. ومن دون قوة الدولة، يصبح المجتمع مثل الجسد المريض، عرضة لاضطرابات وأزمات ونزاعات بين مختلف الفئات. وفي غياب القوة يصعب التحكم في ما يُفْرزُه المجتمع من عنف، ومن فوضى، ومن مختلف أشكال العصيان والتمرد. ويعتقد المفكر الفرنسي بنجامين كونستان (القرن التاسع عشر) أن الدولة الضعيفة تقود مجتمعها إلى الفوضى القاتلة. وفي ذلك كتب يقول:" إن الشعب الذي يعتبر أنه سيّد نفسه من دون حدود ولا قيود، يقود نفسه إلى أحوال أشد فظاعة من تلك التي يمكن أن توجد في ظل الدولة الأكثر خضوعا للقانون الإلهي".
وعند تحديده لمفهوم الدولة، عاد الماركسي الايطالي أنطونيو غرامشي(القرن العشرون ) إلى فرانسوا غيشاردان، وهو فيلسوف من فلورنسا من القرن السادس عشر. وكان هذا الفيلسوف يرى أن الدولة تحتاج إلى جيش وإلى دين. ومن دون ذلك لن تتوفر لها القوة للبقاء طويلا. ومن خلال هذا الفيلسوف، توصّل غرامشي إلى أن الدولة هي في الحقيقة مجتمع سياسي مع مجتمع مدني. أي أن الدولة تحكم وهي مَحْميّة بالهيمنة إذ أن المجتمع السياسي يعني بالنسبة لغرامشي الجيش والشرطة اللذين يمثلان أجهزة المراقبة والقمع. أما المجتمع المدني فيتمثل في الثقافة، وفي التقاليد الاجتماعية. لذا لا يُكتب البقاء للدولة إلاّ إذا ما تمكنت من التوحيد بين السلطتين، سلطة المجتمع السياسي، وسلطة المجتمع المدني. وعندما لا تتمكن الدولة من المحافظة على هذه الوحدة، وعلى هذا التوازن، فإنها تفقد سلطتها. وغالبا ما يؤدي ذلك إلى ظهور تيارات فاشية، وإلى بروز نزعات مُتطرفة قد تُغرقُ المجتمع في الفوضى المدمرة أو في الحروب الأهلية.
وإذن المشكلة في تونس بعد المحن والتحارب المريرة التي اكتوت بنيرانها خلال العشر سنوات الماضية، ليست في تحبير دساتير، وإصدار مراسيم، وإنما هي تمكن أساسا في إعادة الاعتبار للدولة القوية القادرة على حماية التونسيين من الأيديولوجيات المدمرة سواء كانت يمينية أن بسارية أم دينية ام غيرها، وعلى إعادة الاستقرار والأمن لكي تخرج تونس من نفق الاحتجاجات والاضطرابات والقلاقل، وتنطلق إلى العمل الجاد الذي يعيد للحركة الاقتصادية حيويتها ونشاطها وعافيتها.