يوم الأحد العاشر من شهر يوليو-تموز من هذا العام، والموافق لليوم الثاني من عيد الأضحى، تسمّر مئات الآلاف من التونسيين والتونسيات أمام الشاشات التلفزيونية لمشاهدة المواجهة الساخنة بين أنس جابر والكازاكستانية إلينا رابيكينا للفوز بالبطولة العالمية لكرة التنس.
بينهم كان هناك أطفال وعجائز وشيوخ وقرويون وريفيون وأغنياء وفقراء. وجميعهم كانوا يرغبون في أن تفوز أنس جابر التي أطلقوا عليها اسم "وزيرة السعادة" بالبطولة ليعيد لهم هذه الفوز بصيصا من الأمل في زمن عسير تكاثرت فيه الأزمات واشتدت، حتى أنهم أصبحوا يشعرون وكأن حياتهم نفق أسود بلا نهاية.
وهم على حق إذ أن ثورة "الربيع العربي" التي أطاحت بنظام الرئيس بن علي، تحولت منذ أشهرها الأولى إلى كابوس مريع ما يزال يؤرق التونسيين والتونسيات بمختلف مراتبهم وأعمارهم. وفي كل مرة يلمع فيها بريق أمل، تهبّ عاصفة لتنشر الظلمات من جديد.
ورغم أن أنس جابر لم تفز بالبطولة فإن هزيمتها المشرّفة لم تفقد التونسيين فخرهم واعتزازهم بها لأنها مكنتهم من رفع رؤوسهم، ومن نسيان ولو لحين من الزمن، ما يحدثُ لهم في هذه الصيف اللاهب من متاعب ومُنغّصات على جميع الأصعدة.
غير أنه لا بد أن يكون الزعيم بورقيبة الأكثر سعادة وهو في قبره بأنس جابر التي قدمت الحجة والدليل القاطع على أن المرأة التونسية ليست "وعاء جنسيا" كما وصفها أحد زعماء الإسلام السياسي، ولا "ناقصة عقل ودين"، ولا هي أمة تباع في سوق تجار الجنس الرخيص، بل هي قادرة على أن تأتي بالعجائب، وأن تحقق البطولات، وأن ترفع الراية التونسية عاليا في المحافل والتظاهرات الدولية.
لا بد أن يكون الزعيم بورقيبة سعيدا جدا بـ"وزيرة السعادة" لأنها من مدينة قصر هلال، تلك المدينة الساحلية التي احتضنت في خريف عام1934، أول مؤتمر للحزب الحر الدستور الذي أسّسه الزعيم بورقيبة مع ثلة من رفاقه درسوا مثله في أرقى الجامعات الفرنسية ومنها تخرجوا محامين وأطباء ومهندسين وأساتذة .
وكان ذلك المؤتمر الذي انعقد في "دار بن عياد"، وهو أحد مدينة قصر هلال، بداية لمسيرة نضاليه بطولية سالت خلالها الدماء والدموع غزيرة لتتوّج في النهاية بحصول تونس على استقلالها في العشرين من شهر مارس1956.
وفي الحين اتخذ الزعيم بورقيبة جملة من القرارات والإجراءات لبناء الدولة التونسية الحديثة. وكانت "مجلة الأحوال الشخصية" التي حررت المرأة التونسية من قيودها، ومنحتها الحق في التعليم وفي العمل وفي المشاركة في الانتخابات من جملة تلك القرارات التاريخية.
وعلى مدى السنوات التي تلت ثورة "الربيع العربي" كانت المرأة التونسية في قلب التظاهرات والمعارك ضد التيارات والحركات الرجعية والظلامية التي بذلت كل ما في وسعها بهدف إعادتها إلى الجحور المظلمة ودفنها حيّة خلف الجدران العالية. وبجرأة نادرة تصدت لمن سعوا إلى تزوير التاريخ البطولي للمرأة التونسية في المرحلة التي أعقبت الاستقلال.
ولا بد أن يكون الزعيم بورقيبة فخورا ومعتزا أيضا بحفيدته لأنها صنعت الحدث في صيف يواجه فيه التونسيون مؤامرة جديدة تتمثل في دستور أخرق أعدّ في الخفاء ليعيد التونسيين مرة أخرى إلى ظلمات الاستبداد والتخلف.
والذين أعدوا هذا الدستور يرغبون في قبر دستور سنة1959 الذي أعدته نخبة تونسية مستنيرة ومتفوقة. وكان له دور أساسي في بناء الدولة التونسية الحديثة.
ولعل هؤلاء يحلمون بأن يسمح لهم دستورهم الملغم بالأخطاء والتأويلات الخطيرة أن يدخلوا التاريخ من بابه الواسع. غير أن الهزيمة المشرفة لأنس جابر في "ويمبلدون" أحيت لدى التونسيين والتونسيات ذكرى فترة مشرقة من تاريخهم المجيد فيها كان بورقيبة زعيما وطنيا كبيرا وقائدا لدولة تطمح للحداثة والتقدم والرقي.
ولعل ذلك يمدهم بالقوة والعزيمة لإحباط المؤامرات القذرة التي تُطبخ في السر والعلن بهدف عرقلة مسيرة بلادهم نحو مستقبل مشرق بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.