قد يكون المفكّر الفرنسيّ الكبير هنري كوربان على حقّ عندما ذكر في كتابه المعروف :”تاريخ الفلسفة الإسلاميّة" بأن الفكر العربي ظلّ بعد ابن رشد صحراء قاحلة إلى أن جاء ابن خلدون”. فقد ملأ كتاب "المقدّمة" فراغا هائلا، ومن خلاله قدّم صاحبه رؤية غاية في الدقّة، والعمق للحياة السياسيّة والاجتماعيّة في عصره، وفي العصور السّابقة لعصره راصدا كلّ التحوّلات، والأحداث الخطيرة التي عجّلت بانهيار الحضارة العربيّة-الإسلاميّة.
وقد لا نكون مُخطئين عندما نقول بإنّ الفكر العربي منذ رحيل ابن خلدون وحتى يومنا هذا هو في الحقيقة "صحراء قاحلة". فباستثناء بعض الومضات، نحن لا نكاد نعثر على ما يُشفي الغليل، وما يُضاهي ولو بنسبة قليلة كتاب "المقدّمة"، وعلى ما يوازيه في عمق التحليل، وقوة الحجّة، ورصانة العقل. والمفكّرون اليوم في عالمنا العربي هم في الواقع مقلّدون لا مبدعون. وهم لا يولّدون أفكارا ومفاهيم، وإنّما هم ينقلون ذلك عن فلاسفة، وعن مفكرين غربيين. وغالبا ما يكون هذا النقل سيّئا أو مَعّطوبا. ونظرا لعدم قدرتهم على فهم واقعنا المعاصر، والإحاطة بتعقيداته، هم يلجؤون إلى التجريد والغموض، أو هم يظّلون على السطح فلا ينفذون إلى الأعماق أبدا. ونحن لا ننكر أن هناك مفكرين سعوا إلى الاستفادة من فكر ابن خلدون، ومن وحي "مقدمته" قدموا العديد من الأطروحات الهامة عرضوا من خلالها قراءات لواقعنا المعاصر. كما أنهم سعوا أن يستخرجوا منها ما يمكن أن يمدّهم بوسائل جديدة في البحث والتحليل.مع ذلك يظلّ كلّ هذا غير كاف لأسباب عديدة. ومن بينها أن ابن خلدون، مثل العديد من المفكرين القدماء، لا يزال في نظرنا ضحيّة نظرة يمكن وصفها ب"التقديسيّة"، وهي نظرة تحيله إلى الماضي البعيد، أكثر ما تحيله إلى الحاضر والمستقبل.
لقد قال هايدغر ذات مرّة بإنّ الفكر لا يستفيد إلاّ من ذاته، ولا يمكن أن يتطوّر من دون العودة إلى مصادره الأولى. ونحن نعتقد أن العودة إلى ابن خلدون تفترض ألاّ ندرس فكره لإقناع أنفسنا، وإقناع الآخرين الذين أصبحوا أسياد عالم اليوم بأنه كان لنا في القديم مفكرون عمالقة بفضلهم أشعّت حضارتنا على العالم، وإنّما لكي يكون هذا الفكر مُضيئا لنا في عتمة أيّامنا الحاضرة، ومحرّضا إيّانا على بذل المزيد من الجهد لكي يكون فكرنا المعاصر فكرا خلاّقا، لا فكرا ناقلا،، فكرا متحرّكا لا فكرا جامدا، فكرا متحوّلا لا فكرا ثابتا، عاجزا عن الاستفادة من مصادره الأولى، وعن النّهل من تلك الينابيع التي ما نظنّ أنها نضبت رغم القرون المديدة الني تفصلنا عنها. من هنا اعتقادنا بأنّ أحد أسباب الجدب الفكري الذي نعيشه راهنا، والذي أدّى إلى انتشار الأفكار الصفراء والفتاوي الظلاميّة هو "تحنيطنا" لرموزنا الفكريّة القديمة مثل ابن خلدون الذي لا زلنا عاجزين إل حدّ كبير عن الاستفادة الحقيقيّة من "مقدمته".لذا ليس من الغريب أن يصبح الخطاب الديماغوجي سيّد الموقف، وأن تغزو مجتمعاتنا فتاوي تجّار الدين، ودعاة الفتن، وأدعياء امتلاك الحقيقة المطلقة!
**
إن الجانب المدهش والمبهر في سيرة عبد الرحمان بن خلدون (1332-1406) هو أنه عاش خطوبا وأحداثا ومحنا جساما، منها تعلّم الكثير واختبر الحياة والنّاس، واستخرج عبرا ساعدته على مواجهة مختلف المحن والمصائب التي أبتلي بها في مراحل مختلفة من حياته...
ففي سنّ السّابعة عشرة، ضرب طاعون جارف حاضرة تونس حيث ولد ونشأ، فهلك والداه وعدد كبير من أهله. كما هلك البعض من العلماء الذين درّسوه في جامع الزّيتونة. وبسبب الفراغ الذي حدث، لم يتحمّل ابن خلدون جراح تلك الكارثة وصدوعَها، ففضّل ترك مسقط رأسه ليتوجّه إلى فاس مُلتحقا بأستاذه وشيخه المفضّل الآبلي.
وفي فاس، عاصمة بني مرّين، حكّام المغرب آنذاك، ارتبط ابن خلدون بعلاقات وثيقة بأهل السياسة والقضاء والأدب والفكر. وبسبب ما تميّز به من فطنة ومن ذكاء في مجالات متعدّدة، عُيّن كاتبا في قصر السّلطان أبي إسحاق إبراهيم بن أبي بكر. وقد خوّل له منصبه الرّفيع، التدخّل المباشر في شؤون السياسة، وفي الصّراعات الدائرة على أشدّها بين أهل السلطة والنفوذ. إلاّ أنه لم يلبث أن اتّهم بالمشاركة في المؤامرة التي حيكت ضدّ السلطان المريني، فألقي به في ظلمات السّجن ليمضي فيه سنتين كاملتين. وفيما بعد، سوف تساعده تلك التجربة المريرة والقاسية على تقديم تحليل رائع ودقيق عن العلاقة بين "السّيف والقلم ". وهو يعني بذلك العلاقة بين أهل السّلطة والنّفوذ، وأهل الفكر والثقافة. ومن جديد استعاد ابن خلدون منصبه الرّفيع ليزداد خبرة بخفايا السياسة وأهلها، ولينغمس مرّة أخرى في الدسائس والمؤامرات. ولمّا استشعر المخاطر التي يمكن أن تنجم عن ذلك، ترك عاصمة بني مريّن حيث كانت الصّراعات على السّلطة في أوج احتدامها لينطلق إلى غرناطة، عاصمة بني الأحمر آنذاك ليعيش مغامرات وأحداثا أخرى لا تقلّ أهميّة عن تلك التي عاشها حتى ذلك الوقت.
وفي غرناطة وثّق ابن خلدون صلاته بالوزير الشّاعر الأندلسي لسان الدبن بن الخطيب الذي كان قد تعرّف عليه في فاس. وخلال الفترة التي أمضاها في بلاد الاندلس، اكتشف ابن خلدون أحوال العالم المسيحي. حدث ذلك عندما عيّنه بنو الأحمر في سفارتهم في اشبيلية، عاصمة مملكة قشتالة النصرانيّة. ورغم النجاح الكبير الذي حقّقه في مهمّته، خيّر ابن خلدون ترك بلاد الأندلس بسبب الجفاء التي حصل بينه وبين صديقه الحميم ابن الخطيب. وفي سيرته يشير ابن خلدون إلى أن تلك الجفوة حصلت بسبب "الأعداء وأهل السعايات " الذين حرّكوا لدى صديقه "جواد الغيرة فتنكّر له". وفي بجاية التي قصدها بعد مغادرته غرناطة، رفض ابن خلدون منصب الحجابة، وهو منصب رفيع في ذلك الوقت.
وبعد أن عاش تجارب سياسية خطيرة في المغرب الاوسط(الجزائر اليوم)، اختار ابن خلدون الإقامة في قلعة بني سلامة ليتفرّغ في تلك "الخلوة" البعيدة عن صخب عالم السياسة ودسائسها ومؤامراتها، إلى كتابة "مقدمته" الشهيرة. والمأثرة التي يشهد له بها الجميع، القدماء كما المحدثون،، هو أن ابن خلدون لم يحذر في عمله المذكور بطش الحكّام والسّلاطين وذوي النّفوذ مثلما فعل العديد من المؤرخين العرب والمسلمين، ولم يزوّر التاريخ، بل هو أفصح عن الحقائق، وعن الوقائع التاريخيّة، وبحث في الأسباب الموجبة لعلوّ شأن الممالك وانحطاطها، وفي أطوار الدول واختلاف أحوالها، وفي معنى الخلافة والإمامة،، وفي انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة، وفي مفهوم الاستبداد، وفي أسباب تشبّث العرب بالحكم، وفي العمران البدوي والحضري، وفي الأمم الوحشيّة والقبائل، وفي العديد من القضايا والمسائل الخطيرة الأخرى التي تحفل بها "المقدّمة"...
مُثْخَنا بجراح تجاربه المريرة، عاد ابن خلدون إلى موطنه تونس بعد أن أنهى" المقدّمة"، وكان آنذاك قد تجاوز سنّ الأربعين. وفي الحين، شرع في تدوين "العبر" في تاريخ الأمم والملوك والقبائل. ولما فرغ من ذلك، أهدى نسخة من كتابه إلى الملك الحفصي، حاكم تونس في ذلك الوقت. وفي جامع الزيتونة، حظيت دروسه بتقدير الطلبة وإعجابهم فتوافدوا لسماعها بأعداد وفيرة. وقد أشعلت شهرة ابن خلدون في العلم والمعرفة غيرة الإمام ابن عرفة الورغمّي المعروف بتزمّته وانغلاقه، فراح يؤلبّ عليه الطلبة والشيوخ، وأهل السلطة والنفوذ. ولما أدرك ابن خلدون أن معركته ضدّ أعدائه لن تكون مجدية ولا نافعة، ترك موطنه من جديد غير آسف فلن يعود اليه أبدا، مخيرا العيش في بلاد المشرق، وفيها سيعيش تجارب ومغامرات أخرى لا تقل أهمية عن تلك التي عاشها في بلاد المغرب...
لكن أية عبر، وأية دروس يمكننا أن نتعلمها اليوم من ابن خلدون؟
أطرح هذا السؤال لأنني أعتقد أن صاحب "المقدمة"، و"كتاب العبر"، هو من أفضل، وأكثر المفكّرين العرب القدماء حضورا في حياتنا العربيّة المعاصرة، ومن أشدّهم ارتباطا بها على مستويات مختلفة ومتعدّدة. فالمسائل والقضايا التي تطرّق إليها، وفيها بحث وتمعّن وفكّر بعمق، لا تزال حاضرة بقوّة في حياتنا السياسية والاجتماعيّة والفكريّة. وما أظنّ أنّ النّظم السياسيّة، وعلاقة الحاكم بالمحكوم ومكانة النخب المثقّفة في المجتمع، وغيرها من القضايا، يمكن أن تفهم راهنا من دون العودة إلى أطروحات ابن خلدون في "مقدّمته" الشّهيرة.فمثلا نحن نتلمّس من خلال الفصل الذي حمل عنوان: "في أنّ الأمّة إذا ما غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء"، الأسباب التي أدّت بالعرب إلى مثل هذه الحالة الفظيعة من الوهن والضّعف والهوان والانقسام والتشتّت حتّى أنهم باتوا عاجزين عن "المدافعة عن أنفسهم، ومغلَّبين لكلّ متغلّب، وطعمة لكلّ آكل". وأمّا في الفصل الذي حمل عنوان :في أنّ الدعوة الدينيّة من غير عصبيّة لا تتمّ" نحن نقف على العديد من الجوانب المتّصلة بالحركات الأصوليّة التي "سرقت " ثورات ما سمّي ب"الربيع العربي"، وانحرفت بها عن الأهداف التي اندلعت من جالها. ففي هذا الفصل يتحدّث ابن خلدون عن الذين نصّبوا أنفسهم منذ البداية "حماة الإسلام"، رافعين شعار :"الإسلام هو الحل". واعتمادا على ذلك هم ارتكبوا، ويرتكبون جرائم شنيعة وفظيعة، مُبيحين القتل والذّبح والتّمثيل بالأجساد، وهدْر الممتلكات العامّة والخاصّة، وخطف الأبرياء للمطالبة بالفدية بدعوى "الدفاع عن الاسلام والمسلمين". وهو يقول بإن المنتحلين للدين يعتمدون على الغوغاء والعامة للثورة على من يُسمّونهم ب"أهل الجور والطغيان " إلاّ أن الواقع سرعان ما يثبتُ ان هؤلاء الذين يُبالغون في العبادة، وفي التظاهر بالطهارة والعفة، هم في الحقيقة أشدّ جوْرا وطغيانا وفسادا من أولئك الذين ثاروا ضدهم، وعملوا على اسقاطهم. ومن بين الأمثلة التي يقدمها عن المنتحلين للدين، يذكر ابن خلدون أن رجلا من سواد بغداد يُعرف بابن سلامة الأنصاري، ويُكنّى أبا حاتم، علّق في عنقه مصحفا، داعيا الناس إلى "الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والعمل بكتاب الله، وسنة نبيه".، فاتبعوه ولا فرق عندهم بين الشريف والوضيع. وسرعان ما اندلعت نيران الفتنة لتحرق الأخضر واليابس. ولولا إبراهيم بن المهدي الذي جهز له جيشا لإخماد تلك الفتنة لعمّ الخراب بلاد العراق. ونحن نجد في هذا الفصل الذي خصصه ابن خلدون للمتحلين للدين، ما يُعرّي، ويفضح حقيقة حركات الإسلام السياسي التي اقتحمت المشهد السياسي في العديد من البلدان العربية انطلاقا من نهاية السبعينات من القرن الماضي. وقد اعتمدت تلك الحركات في عملها على الدين، رافعة هي أيضا شعار:" الإسلام هو الحل"، وداعية لمحاربة ما سمته في أدبيّاتها ب"الطاغوت" المتمثل في الدولة، وفي مؤسساتها الأمنية والعسكرية تحديدا. وعلى مدى ثلاثة عقود، تمكنت حركات الإسلام السياسي من التمدد في مختلف المجتمعات العربية لتكون لها قواعد، لا فقط من "العامّة والدهماء" بحسب عبارة ابن خلدون، وإنما أيضا من النخبة المتعلمة المتمثلة في طلبة، ومهندسين وأطباء، وأساتذة جامعيين، وغيرهم. وقد استغلت حركات الإسلام السياسي تلك الانتفاضات التي أطاحت ببعض الأنظمة العربية في بداية عام 2011، لتتصدّر المشهد السياسي. وفي البداية تعاطفت الجماهير العريضة، وأيضا النخب مع هذه الحركات باعتبارها ضحية لظلم وقمع الأنظمة المنهارة، ورحبت بها. وفي تونس على سبيل المثال لا الحصر، والتي تربت على مبدأ فصل الدين عن الدولة منذ منتصف القرن التاسع عشر، صوتت لحركة النهضة الاسلامية نسبة كبيرة من الشعب في انتخابات خريف عام 2011 على اعتبار أن قادتها وانصارها "يخافو ربي" أي يخافون الله"، إلاّ أن سنة واحدة فقط كانت كافية ليكتشف الذين رحبوا بهم في البداية أن هؤلاء أشد جورا وطغيانا وفسادا ونفاقا من رؤوس النظام المنهار. والأمر ذاته حدث في بلدان عربية أخرى. يكفي أن نشير إلى السودان التي كابدت مظالم الإسلاميين على مدى أربعة عقود، ولم تتمكن من الخلاص منهم إلاّ بعد أن أصبحت البلاد على حافة الإفلاس والخراب الشامل.
ولو نحن تعمقنا في قراءة "المقدمة" لعاينّا أن ابن خلدون كان يخشى الانتفاضات الشعبية، ومنها ينفر نفورا شديدا باعتبارها "مُؤذنة بالفوضى وخراب العمران". لذلك كان يحثّ الأنظمة القائمة على اصلاح ما فسد، وعلى تجنب الظلم، والاجحاف في الطغيان والفساد، لإطفاء نيران الفتن، واخماد الانتفاضات التي قد يستغلها أمثال المنتحلين للدين لإغراق المجتمعات في الدماء والحروب والنزعات المدمّرة. وأظن أن جلّ رموز النخب العربية أخطأوا في تقييم الانتفاضات التي أطاحت ببعض الأنظمة في المشرق، وفي المغرب في مطلع سنة 2011. ولعل خطأهم عائدا أساسا إلى أنهم اعتمدوا على مفكرين وفلاسفة غربيين، خصوصا هيغل وماركس، في رصدهم لخفايا تلك الانتفاضات، وأهدافها، ومضامينها السياسية والاجتماعية. لذلك ظنوا أن تلك الانتفاضات هي "ثورات" لا تختلف عن تلك الثورات التي شهدتها أوروبا في القرن التاسع عشر، وفي القرن العشرين، والتي مهّدت لظهور أنظمة ديمقراطية وبرلمانية، مُنْهية عهودا من الاستبداد، والظلم، وقمع الحريات العامة والخاصة. غير أن الواقع سرعان ما خيّب ظنّ وأملَ تلك الرموز، وأبطل نظرياتها، وتحاليلها، واستشرافاتها إذ أن الانتفاضات المذكورة أفضت حال سقوط الأنظمة إلى حروب أهلية، وإلى نزاعات عشائرية، وإلى فتن دينية، أو إلى ديمقراطية مزيفة يخنقها الفساد، وفيها تسود الفوضى المدمرة المؤذنة بإفلاس الدولة، وبخراب العمران مثلما هو الحال في تونس. ولو أن رموز النخب العربية قرأوا الانتفاضات العربية اعتمادا على ابن خلدون، لما وقعوا في الخطأ الجسيم، ولما أجْهَدوا أنفسهم في طبخ تحاليل ونظريات سرعان ما أسقطها الواقع لتكون خاوية وبلا أيّ مدلول.
لكن ما هي أركان الإصلاح عند ابن خلدون؟
أول الأركان هو عدم التشبّث بالسلطة الّذي طُبع به الحكام العرب منذ القديم إذ أن الواحد منهم قد يدفع به جنون السلطة، والتمسك بها إلى اغراق بلاده في النزاعات والمؤامرات القاتلة والمدمرة. لذلك يرى ابن خلدون أن التداول على السلطة هو الطريقة المثلى لتجنب ما ذكرنا، ولضمان الاستقرار والأمن لهذا البلد أو ذاك، وتسخير قواه للبناء، والتشييد، وليس للاقتتال والتدافع المُهلك. ويرى أبن خلدون أن انفراد الحاكم بالسلطة، وبالرأي يقود الدولة إلى الضعف والهرم والانحلال. كما أن انفراد الحاكم بالسلطة والرأي قد يُعْميه عن واقع بلاده، وعن هموم رعيته فيهرب منه المخلصون والأوفياء وأصحاب النوايا الحسنة، والأفكار النيرة ليجد نفسه في نهاية المطاف مُحاطا بالانتهازيين، وبالمتكالبين على الثروة والجاه، والذين تعلو مصالحهم على مصالح بلدانهم.
وأما الركن الثاني في الإصلاح عند ابن خلدون فهو تجنب الظلم بجميع أشكاله وألوانه لأن الظلم في رأيه "مُؤذن بخراب العمران وفساده". وعندما تكثر المظالم، ينقطع الشعب عن العمل، و"تنقبض أيديهم عن المكاسب" خصوصا حين يتيقّنون أن فوائد كدهم وعملهم عائدة بنفعها ونعمها إلى الحاكم وحاشيته الضيّقة بحيث لا يتبقى لهم في النهاية إلاّ ما بالكاد يقضي حاجتهم في الأكل والملبس والسكن، بل قد ينعدم ذلك تماما فيسود الفقر، والبؤس، وفي القلوب تشتعل نيران الضغائن والأحقاد. ويقول ابن خلدون بأنه إذا ما أمعن الحاكم في "ارتكاب المذْمُومات، وانتحال الرذائل، وسلوك طرقها، " فإن ذلك يؤدي به إلى خروج الحكم من يده، فيُعزل أن يقتل أو يفر هاربا من بلاده ليموت بعيدا عنها مهموما، مٌُكدّر النفس.
وفي الفصل السادس والعشرون، يذهب ابن خلدون بعيدا في جرأته ويقول إن "العرب إذا ما تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب". والسبب في ذلك وهو أن العرب بحسب رأيه "أمة استحكمت فيها عوائد التوحش" حتى صارت لهم "خُلُقا وجبلّة". لذلك هم لا ينقادون إلى السياسية بسهولة ويسر لأن السياسة تنتسب إلى عالم التحضر، والتمدن، وتضْمر أو تغيب تماما في عالم الخشونة والبداوة. لذلك فإن العرب لا يُحسنون إدارة الحكم، وتسيير شؤون الدولة، وتطوير العمران. وهم الذين تعودوا على العيش في الخيام، لا يتورعون عن تهديم المباني، وتخريب القصور، وحرق الحدائق والبساتين، وتدمير كل مظاهر العمران والتحضر. وهذا ما حدث في جل الانتفاضات العربية القديمة والحديثة، آخرها انتفاضات ما سمي ب"الربيع العربي". ففي خضم تلك الانتفاضات، وجدت الجموع الغاضبة على النظام القائم الفرصة للتفنن في ابراز مواهبها في تخريب وتدمير كل مظاهر التحضر والتمدن في مدنها وقراها. أما الذين استلموا السلطة بعد انهيار الأنظمة في بداية عام 2011، فقد أكدوا مرة أخرى قولة ابن خلدون المذكورة، مُظهرين جهلا فادحا بأبسط قواعد السياسة وخفاياها، وأصولها، وعجزا مريعا في إدارة شؤون الدولة، وفهما خاطئا لمفهومها، ولمفهوم الديمقراطية، والحرية، والعمل البرلماني. وبسبب ذلك، غرقت بلدان ما سمي ب"الربيع العربي" في أزمات سياسية واجتماعية وثقافية خانقة وخطيرة سوف تظل تعاني وتشقى من تبعاتها لأمد طويل.