سألت "إيلاف المغرب" قراءها إن كانوا يعتقدون أن إلغاء مجانية التعليم، كليًا أو جزئيًا، من شأنه ضمان الجودة والمساهمة في رفع وتحسين مردودية المدرسة المغربية؛ على ضوء النقاش الجاري حاليًا في البلاد عقب تداول تقارير منسوبة إلى جهات رسمية لمحت إلى اعتزام الدولة فرض رسوم على المتعلمين من الأسر الميسورة أولًا، قبل تعميم الإجراء على المدى المتوسط ؛ تماشيًا مع نصائح منظمات دولية توصي، في مثل حالة المغرب، بترشيد الإنفاق العام على التعليم، وبتقاسم الأعباء بين الحكومة والمستفيدين، على غرار ما اشترطته بخصوص دعم بعض المواد الأساسية، مثل الزيت والسكر والمواد الطاقية.
إيلاف من الرباط: يمكن حصر حجج المدافعين في المغرب عن أداء الرسوم في سبب رئيس مالي، يروّج أن ميزانية الدولة في المغرب كما في غيره، لم تعد قادرة، مع توسع الهرم التعليمي وتنامي الحاجيات، على ضخ المال أكثر في القطاع حتى يمكن المتعلمين المغاربة من تكوين جيد في مدرسة تخرج الكفاءات، منخرطة في سوق تنافسية المعرفة، وطنيًا وعالميًا.
وكما هو متوقع، فقد أجاب متصفحو "إيلاف المغرب" بنسبة عالية شارفت السبعين في المائة عن السؤال، حيث رفضوا فكرة ربط الجودة بإلغاء المجانية؛ وكأنهم يشيرون صراحة إلى أن مشكلة المدرسة المغربية وتراجع أدائها ليس ماليًا صرفًا، وإنما هو أعمق من ذلك بكثير؛ يمتد إلى مرتكزات السياسات التربوية التي اعتمدتها البلاد منذ استقلالها، حينما رفعت النخبة الوطنية الشريكة في السلطة، شعار المبادئ الأربعة: التعريب، التوحيد والمغربة، ثم التعميم.
وما زالت بعض الأحزاب الوطنية تنادي بتطبيق المبادئ نفسها، فهي مترابطة ومنسجمة في ما بينها في زمانها عكست في حينها التوجه الوطني التحرري لحكومات الاستقلال الأولى، وبالتالي لا يمكن فصل مبدأ عن آخر.
على سبيل المثال فإن تعريب التعليم وإعلاء اللغة العربية كلغة تلقين أساسية، سيؤدي حتمًا إلى توحيد التعليم وإلغاء الأنماط الأخرى أو الحد منها، بما فيها التعليم الخصوصي، الذي يطبق برنامجًا مغايرًا، وينطلق من تصورات خاصة لوظيفة المدرسة قد تتعارض مع الاختيارات الوطنية في مجال التربية والتعليم.
يرتبط المبدآن الآخران، أي المغربة والتعميم، بما سبقهما، بمبدأي التعريب والتوحيد وسيؤدي حتمًا إلى إتاحة فرص متساوية لجميع المغاربة كيفما كان مستواهم المادي. ومهمة (التعريب) لا يمكن أن تضطلع بها إلا الأطر الوطنية المقتنعة بالمبادئ الأربعة السالف ذكرها.
ليس هنا مكان ومناسبة مساءلة حصيلة المدرسة المغربية وتقييم السياسات التعليمية المتبعة منذ عقود، والتي يفترض أنها في فترات سياسية، حاولت تطبيق المبادئ المؤسسة للتعليم في المغرب.
ما يمكن قوله راهنا هو أن تلك المبادئ أصبحت متجاوزة أو بالتعبير الفرنسي "كادوك" بفعل مستجدات الحاضر والتحولات العميقة الحاصل في المجتمع واختلاف انتظارات الأسر المغربية من مدرستهم الوطنية؛ فضلًا عن تطور المعرفة وقنوات الاتصال بها واكتسابها.
سيلاحظ المتأمل في المبادئ المذكورة أنها عبّرت في زمانها عن توجه سياسي تقدمي، مصطبغ بالفكر الاشتراكي القومي، الذي راج في أقطار مشرقية ومغاربية حديثة العهد بالاستقلال؛ غير أنها لم تجد طريقها إلى التطبيق الكامل في المغرب، فقد اختار نظام الحكم النهج الليبرالي الحر في الاقتصاد والتعددية السياسية، بما تعنيه من تشجيع التعليم الخاص من جهة، وتفضيل اكتساب اللغات الأجنبية عوضًا من الاكتفاء باللغة العربية، إذ ما دام الاقتصاد وسوق العمل في المغرب غير معربين، فإن الحصول على شغل ليس مضمونًا دائمًا.
تضمر إجابات استطلاع "إيلاف المغرب" المشككة في جدوى التراجع عن المجانية نقدًا للحكومة الحالية والسابقة لما اتسمت به سياساتها من تخبط وعدم استقرار. يكفي في هذا الصدد الإشارة إلى أن غالبية وزراء التربية والتعليم الذين توالوا على المنصب منذ الاستقلال، بعيدون إلى حد كبير عن جوهر الإشكالية التربوية. كانوا مهندسين، وأطباء ومدبرين اقتصاديين.. قليلون مارسوا التدريس أو كان لهم إسهام وارتباط فكري في التعاطي مع المشكلات التربوية. هذا لا يعني أن "التكنوقراط " لا يصلحون؛ لكن المؤكد أن فئات شعبية عريضة سترتاح أكثر لوزير تعليم بمواصفات ثقافية وتربوية معينة؛ مثلما سيصدمها مسؤول غير فصيح، تنقصه القدرة على الإقناع، ولا يتقن الحديث والتواصل مع بني وطنه بلغتهم؟.
على افتراض أن التكنوقراط أفضل من سواهم في مقاربة المشاكل العويصة، فالواقع أن أكثرهم فشل في انتهاج سياسة تعليمية نالت تأييد الناس. وإذا ما سئل المغاربة الآن عن أحسن وزير للتربية عرفته بلادهم؟، فلربما يأتي الجواب: "لا أحد".
هل هو نقص أو فقر في الكفاءات الفكرية بالمغرب؟، قطعًا لا. المشكل يكمن في اختلاط السياسات التعليمة بالمعضلات الاجتماعية. الكثير من مشاكل المغرب في العقود الأخيرة التي أهدرت فيها الطاقات، خرجت من المدرسة والجامعة والمعاهد العليا. فيها ترعرعت الاحتجاجات والمعارضات. تقتضي الموضوعية أيضا الإشادة بتلك المؤسسات التي أمدت البلاد بآلاف الأطر والخريجين على مدى العقود الماضية.
من الطبيعي ألا تتجاوز نسبة المستطلعين 22 في المائة، من ربطوا جودة التعليم بالعدول عن المجانية، لأنه يفترض أن يخضع التعليم المؤدى عنه للمراقبة الصارمة والاستغناء عمن لا يصلح لوظيفة التعليم والتلقين.
وتخشى الحكومة المغربية الحالية كما سابقاتها من ردود فعل قوية، إن اتخذت قرار إلغاء مجانية التعليم، ولو اكتفت بفرض رسوم تدريجية، ريثما يتعود المواطنون عليها، بعد أن يلمسوا الفرق في مستوى جودة التعليم.
على كل، لا تستطيع السلطات التربوية في حالة إلغاء المجانية، ضمان الجودة المبتغاة، فهي مضطرة للاعتماد على الموارد البشرية نفسها التي تمارس التدريس في المدرسة العمومية المجانية. إنه رهان مجتمعي صعب التنفيذ ما لم يحصل توافق وإجماع وطني بخصوصه يراعي مصلحة الوطن وأجيال المستقبل.
في المغرب، يدور حديث كثير عن التعليم. لا أحد قادر على الجهر بمكامن الداء، والتشخيص تتنازعه الأهواء السياسية والنزعات الشعبوية العاجزة عن إيجاد وصفة لدواء ناجع. هناك قناعة متقاسمة بين كثيرين من المهتمين أن المجلس الأعلى للتعليم والتكوين، وهو مؤسسة دستورية، توجد فيها الحساسيات السياسية والانتماءات النقابية والحزبية وتعبيرات المجتمع المدني، أحجم أي المجلس عن إبداء رأي استشاري صريح وقطعي، بخصوص "المجانية" فقد تفتح عليه أبواب جهنم، بعدما دب الخلاف بينهم.
وعودة إلى المبادئ الأربعة، والتي لم تناقش في حينها مبدأ مجانية المدرسة العمومية ، بل اعتبرتها حقًا للمواطنين وواجبًا على الدولة؛ يلاحظ أن مبدأ "المغربة" هو الذي تحقق إلى حد كبير، خلاف التعريب التام الذي سجل فيه انتكاس. وما زالت اللغات الأجنبية وتحديدًا الفرنسية، المزاحم الأقوى للعربية؛ فضلًا عن المطلب السياسي الداعي إلى تلقين الأمازيغية للتلاميذ في أسلاك التعليم باعتبارها لغة وطنية طبقًا للدستور الجديد من دون مقاربة لسانية ونفسية تربوية علمية لانعكاسات ذلك على اكتساب واستيعاب المتعلمين بصرف النظر عن الموقف من الدعوة.
يبدو الحسم في إلغاء مجانية التعليم في المغرب ذا خلفية اقتصادية في المقام الأول. لا يجب النظر إليه من زاوية تعدي الدولة على حقوق المواطنين. وبات واجبًا على الأحزاب السياسية، قبل التشبث بالمجانية، المطالبة بنهج سياسة اقتصادية ناجعة، كفيلة بخلق فرص العمل، في إطار عدالة اجتماعية منصفة قوامها الاستحقاق وفق قيم الشفافية والحكامة.
إذا طبقت تلك السياسة، سيمكن توفير الموارد المالية للإنفاق على التعليم والصحة وغيرهما من المرافق الاجتماعية. إن الصعوبات قائمة، لكن العدول عن المجانية، كيفما كان شكلها ومداها وحجمها، هو إجراء لا يتقبله المغاربة بسهولة، خشية أن يشمل باقي المرافق الخدماتية التي ترعاها الدولة.
قبل فرض الرسوم، يلزم إصلاح منظومة تربوية تراكمت وتقادمت أعطابها، وهي الأجدر بزلزال قوي في صيغة ميثاق وطني يتضمن دواء مرًا لا بد من تجرعه.