الرباط: أكيد أن المسألة التعليمية بكافة تجلياتها ومستوياتها، هي أم المشاكل في المغرب منذ عشرات السنين، استفحلت مع توسع قاعدة المستفيدين من التعليم وتفاقم الأزمات الاقتصادية التي عرفتها البلاد في العقود الماضية، وخاصة خلال ثمانينيات القرن الماضي.
حينذاك لم تعد الدوافع الإيديولوجية والسياسية وحدها المحرك للشارع، على غرار السبعينات، للاحتجاج في الوسط التعليمي، بل فسح المجال لجيل مختلف من المشاكل، تسببت بدورها في اندلاع صراع بين السلطة والمعارضة المنظمة وكذا المنفلتة؛ بل يمكن القول إن هذه الأخيرة هي التي هيمنت على حراك المدارس والجامعات في الكثير من جهات المغرب، خلال العقد المذكور الذي يقترن في ذهن المغاربة بإملاء شروط المنظمات المالية الدولية التي فرضت ما يسمى في الأدبيات السياسية والاقتصادية "التقويم الهيكلي"، ويعني ببساطة تقليص الإنفاق الحكومي على القطاعات الاجتماعية وضمنها التربية، للحفاظ على التوازنات المالية للدولة للحد من انعكاسات اقتصادية معروفة: ارتفاع الأسعار، تصاعد التضخم، تقلص الاستثمارات.
وباستعادة محطات الأزمة التعليمية في المغرب، يسجل الملاحظ جملة حقائق، في مقدمتها أن المغرب جرب إسناد مهمة وزارة التربية والتعليم إلى عدد من الوزراء: من التكنوقراط والحزبيين والمستقلين، غادروا مناصبهم وصحائفهم قاتمة على العموم.
تأكد أن التكنوقراطي تنقصه الرؤية والاستراتيجية، والوزير الحزبي يفتقد الخبرة، مثلما أنه سجين أفكار وبرامج حزبه. أما الوزراء المستقلون، وكانوا قلة، فظلوا ضائعين بين إكراهات السلطة وكثرة مطالب القطاع، وهي مادية أساسًا، ليست لهم قاعدة سياسية يعتمدون عليها. والنتيجة أن كل محاولات الإصلاح إما أنها فشلت او أدت الى كوارث سياسية، أو أنها لم تحقق الأهداف المبتغاة.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن أول انتفاضة شعبية حدثت يوم 23 مارس 1965. لم تضرم نيرانها الأحزاب والنقابات وإنما تلاميذ المؤسسات التعليمية، وكلهم صبية وفتيان، في مدينة الدار البيضاء. رفضوا قرارات متسرعة أعلنها وزير التربية آنذاك، دون التفكير في عواقبها الخطيرة. رأى التلاميذ فيها، بناء على إشاعات، تعريضًا بمستقبلهم وحرمانهم من إكمال دراستهم.
والحقيقة أن المغرب ساده احتقان سياسي شديد في تلك الفترة، في أعقاب اكتشاف ما سمي بـ"مؤامرة يوليو 1963" وكانت، حسب الرواية الرسمية من تدبير حزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية "، اكبر تنظيم يساري في تلك الفترة، ما عمق القطيعة بين النظام والمعارضة التي وجدت السند والتعاطف في احتجاج المؤسسات التعليمية.
استشعر النظام خطورة الأوضاع، فاتخذ بعد مواجهات عنيفة في الدار البيضاء إجراءين: العفو عن بعض المحكوم عليهم على خلفية المؤامرة. أما الإجراء الثاني فتمثل في إعلان حالة الاستثناء، فعطل أول برلمان منتخب عام 1963 وألغي العمل بأول دستور للبلاد؛ لكن الملك الحسن الثاني، أبقى على الحريات العامة ولَم يعلن حالة الطوارئ التقليدية.
استحضرنا بعض ملامح تلك الوضعية المتأزمة أثناء صياغة السؤال الذي وجهته "إيلاف المغرب" لمتصفحي الموقع. سألتهم عن مصدر الخلل: هل يكمن في الأشخاص أي الوزراء الذين توالوا على قطاع التعليم في المغرب وعجزوا عن إيجاد الحلول الملائمة بل حتى ترتيب المشاكل وتصنيفها؟ أم أن السبب محصور في ما يمكن وصفه باضطراب السياسات والتخبط في مواجهة المشاكل الكبرى والتعويل على حلول مرقعة قصيرة المدى.
ولا يملك الباحث في تلابيب معضلة التعليم في المغرب، إلا توجيه النقد للحكومات المتعاقبة، وكذلك للأحزاب والنقابات والمؤسسات الوسيطة التي حملت في الغالب شعارات غلب عليها الطابع السياسي والمادي، أي ان المعارضة وتحديدا اليسارية نقلت معاركها مع السلطات، من ميادين النضال إلى ساحات المؤسسات التعليمية وانطلاقًا منها مارست ضغطاً على الحكم فاستجاب لبعض مطالبها تبعًا لميزان القوى بين الطرفين. لكن التعليم ظل الخاسر.
عن السؤال الذي وجهته “إيلاف المغرب" أجابت أغلبية تجاوزت الثمانين في المائة (84,62) بترجيح الرأي القائل إن علة العلل تكمن في تخبط السياسات وسوء الاختيارات؛ ما أجل المعالجة الجذرية للمشاكل والاكتفاء بحلول ظرفية موقتة اتسمت في كثير من الأحيان بالارتجال ومحاولات إسكات المحتجين بمسكنات سرعان ما ينتهي مفعولها، فتعاود المشاكل خروجها بقوة إلى الشارع ويكثر الضجيج ويضيع الصوت العاقل بين الهتاف.
ومع حلول عقد التسعينيات، احتدت المشاكل الاجتماعية أكثر، وتلقى النظام إنذارًا صريحًا وضمنيًا من جهات يهمها استقرار البلاد. نصحت بنهج سياسات بديلة منفتحة على المعارضة الشرعية ذات الامتداد الشعبي في المجتمع، تتزامن مع مباشرة إصلاحات هيكلية ومؤسساتية.
ويمكن اعتبار التسعينيات الورش الإصلاحي الأكبر" في تاريخ المغرب المستقل؛ توج بإشراك للمعارضة في تدبير الشأن العام والمناداة على اليساري المخضرم عبد الرحمن اليوسفي، ليقود أول حكومة للتناوب، جنبت البلاد خطر السكتة القلبية التي أعترف الملك الراحل الحسن الثاني، أنها شكلت تهديدا جديا للاستقرار في المملكة. وسهل وجود حكومة وطنية توافقية، الانتقال السلس للحكم من الملك الراحل إلى ولي عهده.
في خضم تلك الإصلاحات، اعتمد الملك الراحل مقاربة تشاركية واسعة كمدخل لإصلاح التعليم أو بالأحرى إنقاذه من الولوج إلى نفق مسدود لا مخرج منه.
كلف الراحل الحسن الثاني في شهر مارس 1999 مستشاره عبد العزيز مزيان بلفقيه، وهو مهندس قناطر وجسور، بالإشراف على اللجنة الموسعة لإصلاح منظومة التربية والتكوين. ضمت اللجنة فاعلين تربويين ومن مجالات الاقتصاد والأعمال والقطاع الخاص والمجتمع المدني. انبثق عنها ما سمي "الميثاق الوطني للتربية والتكوين " ، حدد مراحل وآليات الإصلاح بدءا من العشرية الأولى 2001 /2010
نتجنب تقييم الإصلاح، على اعتبار أن المسلسل مستمر بإرادة أكبر من لدن العاهل المغربي الملك محمد السادس، الذي اعتبر التعليم في إحدى خطبه، ورشا إصلاحيا مصيريا، بمناسبة تعيين مستشاره عزيمان رئيسا للمجلس الأعلى للتربية والتكوين، وهو هيئة موسعة ذات رأي استشاري.
وقد تكون مقاربات الإصلاح التي جربها المغرب جيدة على المستوى النظري، لكنها سرعان ما تظهر عيوبا هيكلية بمجرد الشروع في تطبيقها، لأسباب مجتمعية موغلة في التعقيد.
وهذا الإخفاق المتكرر هو الذي جعل ملك المغرب يسند أمر القطاع في الحكومة الحالية، إلى وزير الداخلية السابق المهندس محمد حصاد.
وهذا الاختيار مؤشر على أن ملف التعليم، يعاني من اختلالات مزمنة، فيها ما هو تربوي وإداري وسياسي وحتى مجتمعي. القت تلك العوامل بظلالها السلبية على المنظومة ولم تمكن المغرب من جودة للتعليم تتناسب مع ما يرصده من أموال طائلة للقطاع.
وإذا كانت أجوبة المستطلعين تحمل الدولة مسؤولية تأخر اقلاع تربوي، فإن اجوبتهم ربما تتضمن نقدًا خفيًا للذين أشرفوا على تنفيذ الإصلاحات.
فماذا تعني الاستعانة برجل سلطة، ذي مسار مهني طويل في الإدارة الترابية على الصعيدين الجهوي والمركزي؟ لا يمكن أن يعني شيئًا آخر سوى الإقرار بوجود ما يشبه الفوضى وغياب الشفافية والحكامة الإدارية، وتنافر الأصوات التي ترفع راية الإصلاح.
ولا بد من انتظار نتائج المقاربة السلطوية، التي يعتمدها المشرف الجديد على القطاع؛ لكن ما هي الأداة السحرية التي ستمكن الوزير حصاد من حصد أخطاء اسلافه في الوزارة الكائنة بباب الرواح، بالعاصمة الرباط " المكان له دلالة خاصة" أي أنها معرضة لرياح تغيير يأتي ولا يأتي ...
يلزم تسديل ملاحظة انه رغم المشاكل العويصة، فإن المدرسة العمومية المغربية أمدت البلاد وما زالت بأفواج من الأطر والخريجين، أكملوا تخصصاتهم في الخارج دون صعوبات، بل تفوق كثيرون منهم.
إن المغرب، وهذه ملاحظة ثانية، وخلال العقود الماضية، صعب عليه إجمال التوفيق بين متطلبات النمو وتمكين البلاد من البنى التحتية والتجهيزات اللازمة، فكان من الطبيعي أن تحجب عن قطاع التعليم الإمكانات المالية التي لا يكف عن طلب المزيد منها.
وأخيرا، فإن نزاع الصحراء، أثر ماليًا بضخامة تكاليفه، على وتيرة النمو في المغرب. وكل تلك الإكراهات لا تعفي بعض الافراد والسياسات من مسؤولياتهم التاريخية. ورش التعليم هو سياسي ومجتمعي قبل ان يكون تربويًا خالصًا.