إيلاف من الرياض: منذ عرض حلقاته الأولى، استحوذ "شارع الأعشى" على اهتمام الجمهور، مدفوعًا بإنتاج ضخم، وقصة مستوحاة من الرواية الناجحة "غراميات شارع الأعشى" للأديبة بدرية البشر. تنقل المعالجة الدرامية أجواء السبعينات في المملكة، وهي حقبة شهدت طفرة اقتصادية وتحولات اجتماعية بارزة، بالتزامن مع واقعة اقتحام جهيمان العتيبي وجماعته للحرم المكي، كل تلك الأحداث رفعت من من سقف التوقعات للعمل الذي كتبه فريق تركي مكون من: أوزلم يوجيل، داملا ايركاي، نوكيت بيشاكشي، بورجو غورغون، وقام بإعداد السيناريو والحوار منال العويبيل، أما الإخراج فكان للمخرج أحمد كاتكسيز والمخرجة غول ساريالتين.
الطموحات في العمل كانت كبيرة جدا بسبب زخم الرواية وبسبب قوة المنصة التي يعرض عليها العمل خاصة وفترة السبعينات فترة ثرية جداً ذات خلفية غنية توفر أرضية خصبة لدراما متصاعدة ومليئة بالمفاجآت.
إيقاع سريع بلا تصاعد درامي
أبرز مميزات "شارع الأعشى" أنه لا يطيل في التمهيد، بل يغوص مباشرة في أجواء القصة، مُقدمًا صورة دقيقة تُبرز ملامح الحياة في شارع الأعشى بكل تفاصيله. لكن بعد عدة حلقات من المسلسل لم ينجح المسلسل تمامًا في خلق حالة ترقب دائمة أو تحقيق عنصر الدهشة المطلوب، مكتفيًا بجاذبية التفاصيل البصرية والنوستالجيا التي يمنحها.
بدا واضحًا أن السرد يتخذ منحنى أفقيًا أكثر من كونه تصاعديًا، بمعنى، أنه يعرض الظواهر الاجتماعية والمظاهر الزمنية كدخول التلفزيون الملون، الكاميرا، والراديو بطريقة جذابة، لكنه لا يدفع الحبكة للأمام بشكل مشوق.
ورغم أن هذه التفاصيل تضفي أجواء نوستالجية محببة، إلا أنها لا تُوظَّف في بناء أحداث متشابكة أو مفاجآت تُبقي المشاهد في حالة انتظار مستمر. النتيجة هي إيقاع متوازن لكنه يفتقد الإثارة، حيث يشعر المشاهد وكأنه يتنقل بين مشاهد جميلة بصريًا، لكنها لا تحمل تصعيدًا دراميًا حقيقيًا.
أداء مميز للوجوه الجديدة
لعل أحد أبرز مكاسب المسلسل هو تقديمه وجوهًا جديدة برزت بقوة، خاصة بطلة العمل لمى الكناني وكذلك ، آلاء سالم، بجانب الفنانة صاحبة الخبرة عائشة كاي، اللواتي استطعن أن يثبتن حضورهن بشكل لافت ومميز وكانت مشاهدهن سويًا غاية في الواقعية.إلى جانب ذلك، قدم الفنان براء عالم أداءً ملفتًا، مستمرًا في ترسيخ حضوره السينمائي منذ فيلم "شمس المعارف" (2020)، إذ يشارك سنويًا بأعمال متفاوتة بين الأداء المميز والمتوسط. بيد أن عام 2025 هو عام الحظ بالنسبة له، إذ تألق كأحد نجوم فيلم "صيفي" للمخرج وائل أبو منصور، وكان الحضور الأبرز في "شارع الأعشى"، رغم التحدي الذي فرضته صعوبة اللهجة عليه كأحد أبناء الحجاز.
خيارات تمثيلية غير مقنعة
على الجانب الآخر، كان هناك تسكين للأدوار غير مُناسب ولا مُقنع، وأبرز مثال على ذلك إلهام علي، فعلى الرغم من موهبتها وحب الجمهور لها، لم تكن هي الخيار الأمثل لشخصية البطلة ( وضحى ) ، إذ بدت لهجتها مصطنعة وأدائها أقرب إلى أداء كاريكاتوري مما أفقد الشخصية طبيعتها وواقعيتها، فالدور كان يحتاج لجهد أكبر ومراقبة أكبر، لتجنب التخبط الملحوظ في الأداء حيث شاهدنا تفاوتًا واضحًا للأداء واللهجات من بين كل مشهد والآخر، مما جعلها أكبر نقاط الضعف في المسلسل، ولو أسند هذا الدور لممثلة أخرى لربما كان الأداء أكثر إقناعًا وواقعية.
كل ذلك لايقلل من نجومية إلهام علي، فهي فنانة موهوبة وتملك جماهيرية كبيرة وقدمت العديد من الأعمال المميزة مثل (أم هارون، المسافة صفر، بلوغ)، إلا أنها في حاجة إلى التركيز على اختياراتها بشكل أكبر خلال الفترة المقبل، وبحاجة إلى أن تطور من أدائها التمثيلي كي تهرب من فخ التكرار والنمطية.
مثال آخر على عدم التوفيق في توزيع الأدوار، هو الممثل خالد صقر، والذي اجتهد كثيراً لتقديم دور الأب الحنون الحكيم الحازم في بعض الأحيان، لكنه لم يكن الخيار الأنسب من الناحية العمرية.
فرغم محاولات إضفاء الهيبة عليه من خلال استخدام الشيب المصطنع، إلا أن ملامحه الشابة أفقدت الشخصية مصداقيتها حيث بدا أصغر سنًا من الدور، وبرز ذلك بوضوح في مشهد زواج ابنته، حيث بدا زوجها، الممثل محمد شامان، أكبر سنًا منه، مما أضعف الإحساس بالواقعية.
أفهم أن صنّاع العمل أرادوا الاستفادة من الشعبية الكبيرة للثنائي إلهام علي وخالد صقر، ولكن الجمع بينهما في المسلسل دون انسجام واضح أو ضرورة درامية مقنعة ضررها أكبر من نفعها.
دراما تحتاج المزيد
لا يمكن إنكار النجاح الكبير لـ"شارع الأعشى" في خلق أجواء تعيد المشاهد إلى تلك الفترة الزمنية الهامة في تاريخ المملكة العربية السعودية -السبعينات-، ولايمكن إغفال عديد من الإيجابيات العديدة في هذا المسلسل من خلال وجود عدد كبير من الممثلات السعوديات المميزات ـ في وقت كنا نتشوق لوجود ممثلة سعودية واحدة بسبب النظرة الاجتماعية للفن وللفنانات ـ ويحسب بالفعل للقائمين على العمل الغوص في مثل هذه الأعمال التراثية دون مخاوف إنتاجية أو حتى رقابية لتجعل من هذا المسلسل عملاً يستحق التجربة والمشاهدة ، لدوره في إعادة إحياء تلك المرحلة، ولأنه يعد امتدادًا لحضور الرواية والأدب السعودي في الدراما، ومما لا شك فيه أنه عاماً بعد عام تزداد الخبرات والتحديات، والمهم جداً أن يكون هناك جهد أكبر يبذل في تقديم عمل سعودي استثنائي يبقى في الذاكرة كثيراً.
نجح المسلسل إلى الآن في تحقيق المشاهدات الأعلى في السعودية وبعض دول الخليج، ويبقى شارع الأعشى ـ حتى حلقته التاسعة ـ نافذة جميلة على الماضي أكثر من كونه دراما تصاعدية تُبقي المشاهد في حالة ترقب. وإذا لم يتمكن من إدخال لحظات غير متوقعة تشعل الأحداث، فلربما يفقد تأثيره تدريجيًا خاصة والعمل يقع في ثلاثين حلقة إذ يزداد التحدي أمام صناع للحفاظ على اهتمام الجمهور، فلا يكفي أن يعتمد على النوستالجيا والجماليات البصرية، بل يحتاج إلى تصعيد درامي أقوى كي يرسّخ مكانته كإحدى المحطات المهمة في تاريخ الدراما السعودية.