يشعر المرء عند القيام بجولة موسعة في عوالم وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات تناقل الأخبار، أن هناك حرباً موازية الى جانب حرب الإبادة الإسرائيلية على أهل غزة، تخاض ضد الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، تتسم بضراوة شديدة نتيجة استخدام الدين فيها كسلاح رئيسي، إلى درجة أنها صرفت اهتمام المسلمين إليها، وخاصة السنة، على حساب المجزرة الكبرى.
يقف خلف هذه الحرب حزب الله وسائر أذرع محور الممانعة، وتنظيم الإخوان المسلمين بأفرعه المختلفة، وفي القلب منها أعضاء حركة حماس ومناصريها. والهدف الأساسي منها هو إعادة تشكيل الوعي الشعبي الإسلامي وتطويعه بما يخدم أجندة التحالف. بيد أنها بلغت مديات خطيرة، بعدما وصل الأمر إلى الطعن بالدين الإسلامي، من خلال التصويب على الحج، أحد أركان الإسلام الخمسة، وإهانة حجاج بيت الله الحرام، فقط من أجل التحريض ضد السعودية.
سؤال قديم
ثمة سؤال قديم دائماً ما كان يطرح في الأوساط الشعبية والنخبوية الإسلامية عن سر العداء بين الدول العربية وتنظيمات الإسلام السياسي، وخصوصاً الإخوان المسلمين. غداة عملية "طوفان الأقصى"، صار هذا السؤال مادة لا تغيب عن نقاشات الشارع والمقاهي والصالونات ووسائل التواصل الاجتماعي، مع ميل واضح إلى تحميل الدول العربية والإسلامية، ولا سيما السعودية، مسؤولية ما يحصل في غزة، بسبب عدم مباردتها إلى "الالتحام مع حركة حماس في المعركة المصيرية التي تخوضها دفاعاً عن الأمة" وفق التعبير الأكثر رواجاً، مع تغييب ملحوظ لـ"سوريا الأسد" عن دائرة الاتهامات.
والحال أنَّ تحالف محور الممانعة والإخوان المسلمين استخدم بمكر مجموعة كبيرة من الأدوات المتنوعة غير التقليدية، تشتمل على شبكة واسعة من المؤثرين والمغردين وممن يطلق عليهم "ناشطين"، وشبكات ومجموعات إخبارية، ومواقع مديات تأثيرها محلي ضيق، وبعضها ظهر حديثاً، بجهات تمويل غامضة، بما يدل على استعداد لهذه الحرب الموازية سابق لـ"طوفان الأقصى" بكثير.
تركزت استراتيجية التحالف على استخدام كل هذا الخليط، لاستفزاز عاطفة المتابعين واللعب على وتر إيمانهم وقيمهم الإسلامية، من خلال الدمج بين الأنشطة المختلفة والمناسبات الثقافية التي تجري في السعودية، والمجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة. فضلاً عن نشر أخبار مختلقة، وبلا مصادر، عن دعم المملكة لإسرائيل من أجل القضاء على حماس، ومقالات منتقاة بعناية، الكثير منها إسرائيلي المصدر، لخدمة الهدف نفسه. وهنا لا مناص من الاعتراف بأن هذه الحرب الموازية نجحت بتحقيق نجاحات لا بأس بها في تأليب الطبقات الشعبية والفئات المحافظة ضد السعودية، وخصوصاً في الدول التي تملك إيران فيها نفوذاً كبيراً.
غثاء السيل
مع بدء موسم الحج، تصاعدت وتيرة عملية الضخ والتأليب. بدءاً من إطلاق وسم "الحج_ليس_آمن" وترويجه، والطعن في الدين عبر استخدام أحاديث منسوبة الى النبي محمد (صلى الله عليه وسلّم)، غير صحيحة، من أجل حض الحجاج على عدم تأدية مناسك الحج، مثل "لقمة في بطن جائع خير من بناء ألف جامع"، و"طوفوا حول الفقراء ولا تطوفوا حول الكعبة" وسواها.
مروراً بنشر صور لاحتجاز أفراد خرقوا النظام الدقيق الذي أرسته المملكة لإدارة الحشود المليونية ورعايتها، وحاولوا تأدية المناسك بدون التأشيرة المخصصة. إلى إشاعة خبر عن منع الدعاء لفلسطين وأهل غزة، مقابل تغييب ذكر الأمر الملكي باستضافة 1000 حاج وحاجة من ذوي الشهداء والأسرى والجرحى الفلسطينيين ضمن برنامج "ضيوف خادم الحرمين الشريفين للحج والعمرة والزيارة"، أي على نفقة المملكة الكاملة. وشملت عملية التعتيم، غياب فيديو لحاج فلسطيني تلقى خبر استشهاد نجله في غزة وهو في الحج.
فيديو لحاج فلسطيني تلقى خبر استشهاد نجله في غزة وهو في الحج
وصولاً إلى استثمار وفاة عدد من الحجاج بسبب الحر الشديد، وغالبيتهم حسبما كشفت وزارة الداخلية السعودية من الذين لم يستحصلوا على تأشيرة الحج الكفيلة بتأمين الخدمات اللازمة، من أجل اتهام المملكة بالإهمال وسوء الخدمات الصحية. إلى جانب تجاهل البيانات الغزيرة التي نشرتها وسائل الإعلام حول تفاصيل التنظيم المميز، والتقنيات المتطورة، والقدرات البشرية الهائلة الموظفة لخدمة حجاج بيت الله الحرام، وبإشراف مباشر من ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، والذي اعتذر عن حضور حضور قمة مجموعة السبعة "G7"، بسبب ارتباطه "بالإشراف على أعمال موسم الحج". حتى هذا الخبر جرى تجاهله تماماً من أدوات التحالف رغم أهميته، مع أن الـ"G7" تعتبر أهم مجموعة اقتصادية في العالم، وتتنافس الدول على الانضمام إليها وحضور اجتماعاتها.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل الحال إلى وصف وقوف الحجاج على صعيد عرفة، في أعظم تجمع بشري على وجه الأرض بـ"غثاء السيل"، المستقى من حديث نبوي، وتحويله إلى وسم لإسباغه على حركة الحجاج! الأمر الذي يعبر عن سردية مأزومة، لا تتورع عن إسقاط شعائر وتأويل الأحاديث النبوية بما يخدم أهدافها وأيديولوجيتها. ناهيكم عن الحملة العاتية التي شنت على الشيخ ماهر المعيقلي، الذي تولى خطبة يوم عرفة بمسجد "نمِرَة"، "لأنه لم يذكر غزة إلا بجملة"، واتهامه بأنه "شيخ السلطان" لقيامه بالدعاء لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده.
الدعاء للحاكم
لقب "شيخ السلطان" مستقى من أحاديث نبوية استندت اليها جماعات الإسلام السياسي للطعن في المؤسسات الدينية بسبب دعمها للشرعية والدولة الوطنية فكرةً وكياناً. لكن، وبمعزل عن التأويلات الموسعة والمتغيرة حسب العلاقة مع هذا النظام أو ذاك، ليس كل شيخ يدعو لولاة الأمر من "شيوخ السلاطين". فـ"الدعاء للحاكم" هو تقليد إسلامي عريق، ظهر إبان حكم الأمويين، واستمر مع كل السلالات الحاكمة والدول الإسلامية. ولا يزال هذا التقليد متبعاً في كل الدول العربية والإسلامية بلا استثناء.
اللافت أن خطبة عرفة كانت مسبوقة قبل أقل من 24 ساعة بخطبة للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية، دعا فيها حجاج إيران إلى تأدية "مراسم البراء" من المشركين على جبل عرفة. و"البراءة من المشركين" هو مصطلح "مطاط" أفتى به قائد الثورة الإسلامية في إيران روح الله الخميني، وألزم الحجاج الإيرانيين برفعه وترداده خلال مسيرات أثناء تأدية فريضة الحج لأنه كان يرى وجوب تحويله إلى "فريضة سياسية". وبعد اتصالات دبلوماسية سعودية حذرت من مغبة استغلال الحج لأهداف سياسية، انحصرت "مراسم البراءة" في إحدى الخيام بـ"منى".
أما الثانية، فكانت بياناً من المتحدث باسم كتائب عز الدين القسام "أبو عبيدة"، موجه إلى حجاج بيت الله الحرام، عقب خطبة عرفة بعد وقت قصير، رمى إلى تأجيج العاطفة الإسلامية ضد المملكة وتقويض خطبة المعيقلي، من خلال تركيزه على أن حماس تؤدي فريضة الجهاد عن الأمة الإسلامية جمعاء. وتعكس هاتان الخطبتان، بتوقيتهما ومضمونهما، الهدف المشترك لملالي إيران وحماس، والمتمثل بتزعم العالم الإسلامي.
قد يجادل البعض بأن كل ذلك صادر عن جمهور، ولا دخل به للممانعة والإخوان، وخصوصاً حركة حماس. ألم يكن الفلسطينيون الذين احتفوا بوفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزعوا الحلوى جمهوراً أيضاً؟ فلماذا سارعت حماس إلى إصدار بيان اعتذار وبخت فيه ما تصفه بـ"شعبها"؟ وبالتالي فإن الصيغة الأدق للسؤال المطروح آنفاً لماذا تكن جماعات الإسلام السياسي كل هذا العداء للسعودية والدول العربية؟