مأساة التعليم لا تقتصر على مصر وحدها، بل تشمل كل المنطقة ومحيطها الثقافي والديني. وجدنا أن تعبير "مأساة" هو الأقرب للدلالة، فالأمر ليس مجرد قضية أو مشكلة أو عقبة مؤقتة يمكن حلها بإجراءات لوجستية، بل هو أقرب لعلة أو مرض مستعصٍ والجميع في انتظار مصلح جريء مغامر يبتكر علاجًا ثوريًا تتجرعه هذه المجتمعات ولو بالقوة. أما ما يقال عن خطط تحديث أو تعديل أو تطوير لهذه المنظومة المتكلسة، فهو كذب على الناس وعلى الواقع، وضياع لقرون نحن أحوج لكل يوم فيها، وضياع لثروات نحن أحوج لكل قرش منها.
البعض يتحدث عن تطوير منظومة التعليم كما يتحدث عن تطوير منظومة الصرف الصحي أو النظافة على سبيل المثال، وهي نظم طرق تطويرها لا تتعدى توافر تمويل ومعدات وعمالة، لكن ما نتحدث عنه هو مأساة بكل المقاييس لا تجدي هذه الأساليب في علاجها، ولا نقول تطويرها. تطوير منظومة يفترض أنها قائمة بالفعل وتؤدي دورًا، ثم يجري عليها بعض التعديلات من آن لآخر أو بالأحرى تحديثات يفرضها التقادم الزمني. أما منظومة التعليم في مصر، فهي تشبه نباتًا عشوائيًا نما وتفرع وتسلق وتغول والتهم مداخيل الأفراد والدول، ثم أفرز هذا المنتج النهائي: جيوش عرمرم من أنصاف المتعلمين والأميين معدومي المعرفة والثقافة، أجيال خارج الزمن تعيش عالة على بقية سكان الكوكب، ساهمت في الرجوع القهقرى إلى عصور التخلف والبداوة وتركت العلم الذي فتح آفاقًا لم تخطر يومًا على قلب بشر. العلم الذي أنقذ البشرية من الفناء وأنتجت معامله الدواء والأمصال واللقاحات ووسائل النقل والاتصال، العلم الذي خرج بنا إلى عوالم كان مجرد الحديث عنها منذ عقدين أو ثلاثة مضت ضرباً من الخيال. هذا العلم الذي تحاربه شعوب هذه المنطقة حربًا شعواء لا هوادة فيها، شاهرة كل الأسلحة، وبالطبع وعلى رأسها السلاح الناجع الناجز في مثل هذه القضايا، وهو سلاح الدين وإيهام البسطاء والدهماء والعامة أن العلم خطر على عقيدتهم، حتى أنه رفع الشعار صريحًا وواضحًا "بوكو حرام" أي التعليم حرام شرعًا.
لقد تشكلت ميليشيات متخصصة للجهاد ضد العلم ومكافحته، وما يحدث في نيجيريا وأفغانستان وباكستان وغيرها ما هو إلا صورة من الأصل "الأوريجنال" الذي نبت في صحارى النفط وألغى كل تأثير للعقل. وإن كانت النسخ الأخرى تستخدم وسائل مختلفة، إلا أنها في النهاية تؤدي الغرض بامتياز، وهو إيقاف عجلة الزمن. كل يوم يخرج علينا ونحن نتحدث من مصر منظرين، كل واحد يسبق اسمه عشرات الألقاب والشهادات والرتب، ليُلقي علينا الخطة المدهشة البارعة الناجعة لإصلاح التعليم. وأنا شخصيًا كلما سمعت كلمة إصلاح تضرس أسناني وأعرف أننا على النهج الفاشل نفسه سائرون، لأنَّ الجميع يتعامى عن المشكلة ويجبن عن الخوض فيها خوفًا من الميليشيات التي تحتضن هذه المنظومة ومستعدة للدفاع عنها ضد أي دخيل يقترب منها ولو من بعيد.
في رأيي، علاج هذه المنظومة هو اجتثاثها من جذورها اجتثاثًا تامًا، ثم حرث الأرض وتطهيرها وتعقيمها والبدء من الصفر. معلمون جدد لتلاميذ جدد، معلمون جدد يتم فرزهم وفحصهم، ثم تلاميذ جدد من سن الرابعة لم يتم حقنهم بجرعات من سموم الجمعيات السرية وميليشياتها المختبئة في الحضانات، أو بالأحرى الحاضنات التي ترعاها الدولة وتقدم لها الدعم بكل أشكاله. أما الدراسات الدينية، فيجب أن تكون بعد مرحلة التعليم الأساسي، أي في الخامسة عشرة، وتكون اختيارية وبإشراف الدولة ومسارها منفصل تمامًا عن التعليم العام الموحد.
اقرأ أيضاً: سُعار السلطة وسُعار القوة
وإذا كان الباشا الألباني الكبير، متأثرًا بموجات النهضة التي اجتاحت شمال المتوسط، هو أول من وضع اللبنة الأولى في بناء نظام تعليم حديث في حينه، فقد كان عبد الناصر هو من سدد أول ضربة معول هدم فيها. ففي منتصف الستينيات، أصدر قرارًا بتأميم المدارس القبطية ووضعها تحت إشراف وزارة التعليم، رغم أنها لم تكن مدارس تعليم ديني ولا مقصورة على أتباع ديانة بعينها. انتظر الجميع قرارات أخرى جريئة لتوحيد التعليم في كل المحروسة، لكن عبد الناصر فاجأ الجميع بتحويل الأزهر من مؤسسة لتعليم الدين إلى مؤسسة تعليم ديني، أي من مؤسسة لدراسة وتعليم اللاهوتيات ومقارنات الأديان إلى مؤسسة لصبغ العلم بالصبغة الدينية. وبغض النظر عن تفسيرات عنصرية بغيضة لهذا القرار وقتها، إلا أن النتيجة كانت وبالًا، حيث تم ويتم كل عام ضخ مئات آلاف من ذوي التعليم المشوه إلى سوق العمل. وهاكم النتيجة على الساحة لا تحتاج لتفسير. جاء سلفه ومكن المتطرفين من مفاصل كل منظومة التعليم وما زالوا متمكنين منها، وحولوها إلى مفرخات تنتج أشباه بشر مسلوبي العقول والإرادة، فقط مستودعات كراهية وتعصب وعنصرية انفجرت في وجه الكوكب كله.
إقرأ أيضاًَ: تترات قديمة
لقد انتفضت أوروبا بعد أن حسمت أمرها في قضية الخلط بين العلم والدين وصححت المسار، حيث كانت الجامعات الكاثوليكية العريقة تحتكر تدريس العلوم، وهو ما أعاق وأرهب باحثين ومبتكرين كثر. تم رفع عباءة الدين عن كل هذه الجامعات، واليوم لم تعد تحمل من الدين إلا الاسم فقط، وأصبحت منارات تشع نورًا وحضارة. بدلًا من أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون ونصحح أخطاءهم، بدأنا من حيث بدأوا. صار النظام التعليمي على أساس عنصري، حيث يتجرع قسم من أطفال مصر نظام تعليم، وقسم آخر نظام تعليم مختلف، وبين هؤلاء وأولئك عشرات أنظمة دولية وتعليم خاص من كل نوع. يمكننا أن نتخيل جيلاً حائرًا موزع الانتماء بين الدين والوطن ودولة أخرى تعطيه شهادة ممهورة بخاتمها مقابل آلاف الدولارات.
إنَّ مشكلة هذه الشعوب في هذه المنطقة أنها شعوب حائرة، أنظمتها تضحك عليها، فلا هي دول دينية ولا هي دول مدنية. إذا استثنينا تونس التي تحاول رغم مقاومة شرسة، فالجميع كاذبون. من هنا تنشأ أنظمة مشطورة: قضاء وتعليم وثقافة ومجتمع مشطور رأسياً وأفقياً. الصراع على أشده بين الجميع، ويصبح الحديث عن مشروع قومي كإصلاح التعليم وهمًا كبيرًا بحجم المأساة.