إذا ما مضى من الليل شطره، وثقلت على الرؤوس ظلمته، وأقبل على الأعين، والطرقات، والأسواق يستلب منها بقية يقظتها وحركتها وصخبها، وعَجَّلَ كُلُّ ساعٍ رجوعه إلى داره، وآوت كل مُنَعَّمَة إلى وَطِىء فراشها، وتدثرت بدَفِىء غطائها، ثم أَكَبَّت على هاتفها تسامر صويحباتها عن أشهى مطعم، وأبهى فستان؛ فحينئذ تتهيأ طوائف من بنات الليل لمفارقة المضاجع، ومغادرة الديار، والخروج التماسًا للأرزاق، فإنَّ يوم تلك الطوائف من بنات الليل ليس يبتدئ بالصبح، بل يومهم يبتدئ إذا وَلَّى من الليل شطره، أو إذا مضى منه ثلثاه وأقبل ثلثه الأخير، فذلك هو موعدهن المضروب الذى لا يُخلفنه، ولا يستبدلنه، ولا يقطعنه، ولقد عرفت غير صنف من بنات الليل هؤلاء في غير موطن:
فصنف منهن كن يرقبن سواد الليل، ويرصدن ساعاته، فإذا ما مضى منه ثلثاه، وأقبل السحر، ودنا الفجر، قامت إحداهن فاختمرت خمارها، واستغشت ثيابها، ثم خرجت إلى رأس الطريق حيث تنتظرها صاحباتها، فإذا اجتمعن أقبل إليهن أحد فتيان الليل بسيارته، فيأخذن مقاعدهن منها ثم ينطلق بهن، وبعضهن تكون ركوبتها مركبة حَمْل من ذوات العجلات الثلاث، حيث لا مقعد ولا كرسي، فهن يجلسن في صندوقها من خلف فيُقِلُّهُنَّ وما حملن وينطلق بهن، فما يزال سائرًا بهن القرية بعد القرية، أو المحافظة بعد المحافظة، فكنت تراهن على ظهر هذه المركبات كأنهن في بحر مائج، يخفض بهن ويرفع، ويقذفهن ذات اليمين وذات الشمال، وإن كان شتاء فالبلاء مضاعف، ما بين شدة اضطراب المركبة وارتجاجها، وريح الفجر الباردة وعصفها، وهن ملتحفات دُثُرُهن، وقد عقدن أذرعهن على صدورهن، وتدلت رؤوسهن في حجورهن من ثقل النعاس، ومن شدة البرد، فما يزلن على تلك الهيئة حتى يبلغن فرشهن من سوق التجزئة فينزلن بضاعتهن بها إن كانت معهن، أو يمضين إلى سوق الجملة فيقفن على تُجَّارها، فيشتروا منهم ثم يحملنها فينزلنها فى فرشهم من سوق التجزئة عند الفجر، ثم فلا ينصرفن من سوقهن إلا عصرًا أو بعد عصر، فيرجعن منازلهن من الريف ليتجهزن لمثلها من قابل الليل، يصنعن كل ذلك على جنيهات لا تكاد تبلغ ثمن أكلة واحدة لإنسان واحد فى يوم واحد! فهذا صنف قد عرفته من بنات الليل.
إقرأ أيضاً: العيال كبرت
وصنف آخر من بنات الليل كُنَّ يخرجن إلى الطرقات والشوارع إذا خرج الناس إلى صلاة الفجر، والليل لم تنكشف بعدُ ظلمته، والصبح لم ينصدع بعدُ نوره، فتراهن يَسِرنَ مثانى ووحدانًا، وما يزلن في سير وإسراع حتى يخرجن من الحى، ويبلغن موضعًا من الطريق العام يجتمعن عنده، فتأتى إليهن حافلات فيركبنها، فتُقِلِّهُن إلى بعض المصانع فى الصحراء فى أطراف محافظتهن أو في غير محافظتهن، فيظللن في عملهن به إلى آخر النهار حتى تحملهن الحافلات إلى منازلهن عند المغرب، كل ذلك على أجر هو أقل من ثمن أكلة واحدة لإنسان فرد واحد فى يوم واحد! فهذا صنف آخر قد عرفته من بنات الليل.
وأُخريات غير هؤلاء وغير هؤلاء كن يخرجن من قُراهن فجرًا أو قبل فجر، فيُحملن على سيارات إلى أرض مستزرعة، أو صحراء مستصلحة، فيمكثن بها في حصد، وجمع، وتقليب، وتنقير إلى الضحى ثم يُرجعن إلى ديارهن، يصنعن ذلك على جنيهات لا تكاد تبلغ ثمن أكلة واحدة لإنسان واحد في يوم واحد!
إقرأ أيضاً: مَالَ واحتجب!
فتلكم أصناف قد عرفتهن من بنات الليل، وإني لست أعدل بهن ملكة ولا أميرة ولا وزيرة، وإن خروج العفيفات المتعففات، الساعيات في الليل النائم، وفي الظلمة المخوفة للكسب الحلال سعيًا على أنفسهن، وإعالة لعيالهن، ومعونة لأزواجهن لَهُوَ أشرف في نفسى من سعي ألف رجل يكدحون الليل والنهار، وإن جنيهاتهن القليلات هن أطيب عندي من الخزائن الملأى، وإن المرء ليستحيى مع خروجهن في تلك الأوقات أن يقع في قلبه منهن شيء غير الإكرام لهن والاحتشام منهن، وإن المرء ليخجل أن تزيغ عينه إليهن بنظرة إلا نظرة التأدب، والتوقير، والاحترام.
فعليهن وعلى مثلهن السلام والبركات.