المفاسد في العراق تتكاثر وتنشطر مثل الخلايا السرطانية، عبر أوعية الحياة، يكثر فيها الدم الفاسد، والأورام الخبيثة، وتكثر الانحرافات وغرائب الدنيا، وتزداد فيها المصائب وتطغى فيها المعايب، وتتعدد المتباينات والمتضادات، مملوءة بالمتاعب والبلايا، وطافحة بالأحزان والأكدار، ومزعجات تُورث الخوف والجزع. هي دنيا عراقية، تُضحِكنا وتُبكينا في نفس الوقت!
مفاسد كثيرة؛ نخرج من مفسدة سياسية، فإذا بنا ندخل في أخرى، ألا وهي مفسدة المال الحرام، حيث تتشعب بدورة الحياة، فتضرب في الصميم الحياةَ الاجتماعيةَ والثقافية والفنية والعلمية، بوابل قذائف الإهانات والقبح، لتؤسس نظاماً قيمياً مهزوزاً، ومليئاً بعفن الفساد. صار العراقي مرغماً على الذهاب إلى معسكر تدريبي ليجد معلماً فاسداً يُعلِّمه فنون الفساد، والمفاسد على مسارح السياسة والحياة العقيمة!
لا أدري إن كان هناك برمجة للحياة تُمجِّد القبحَ وتقتل الجمالَ، وتُسارع في هدم الأمجاد العراقية، ومتواليات القيم الفاضلة، وتُنسينا تاريخ (سنحاريب، وآشور، وأكد، وبابل، وحضارة ما بين النهريْن).
لا أعلم أيضاً، إن كان هناك منهجٌ تدميريٌّ فائق السرعة، يُحيل البلدَ إلى أنقاض مرعبة، ويجعلنا نتباهى في المولات الفارهة والمطاعم الراقية والكافيهات الغربية، ونحن نعيش في إطلالات بانورامية على بحيرات ومستنقعات الصرف الصحي، وأمام تلال مزابل خردة الحديد، وفضلات البشر، ومدارس الطين؟
في هذه الأيام، تكثر المهرجانات الفنية والثقافية في بلدٍ هو من أقدم البلاد الثقافية في تاريخ العالم، وعاصمته فيها ما فيها من خزائن الدنيا؛ من الثقافة والفن والآداب، وهي نارٌ على عَلَم بين مدن العالم، لكن مهرجانات اليوم فيها مفاسد السياسية والمافيات واللصوص والقوَّادين، ويطفو فيها الفساد المبرمج ذوقاً وأخلاقاً وقيماً، وعلامتها البارزة: العريُ الصارخ في زمن دعارة الجسد، واغتصاب العقل.
صارت المهرجانات يُديرها سماسرة لكسب المال، وود الجميلات، وواجهة سرية لصفقات بيع الأجساد، وتعميق الشذوذ بأنواعه الذكورية والإناثية. صار جسد المرأة من وراء الفساتين هو الأهم في أجندات المهرجانات، حيث المؤخرات السيليكونية تصدَّرت حديث الجمهور ولقطات الكاميرا.
أما الثقافة وجمال العقل، فإنها تأتي في قائمة الممنوعات؛ فلا مانع أن يتحوَّل نشيد (موطني) إلى أهزوجة لُغوية تتلاعب بها مطربةٌ قادت مهرجان العراق الدولي إلى التشويه والتندُّر، فيصبح العراق (ناعماً منعماً) بديلاً عن كونه (سالماً منعَّماً)، وبأداء فني ركيك باللفظ، والمعاني المشوَّهة التي لا تليق بالنشيد الوطني، ولا بالعراق الكبير!
إقرأ أيضاً: قصتي مع الصحافة الجامعية
المشكلة الأكبر في هذه المهرجانات الفنية، أنها من صناعة المال الحرام، ومؤسسات غير معلومة النسب، ومراكز للطب والمساج والتجميل والتشفيط والتنقيح والتنفيخ؛ هدفها: التسويق والابتزاز، تكثُر فيها الأزياء والعطور الفرنسية والجروت الكوبي، والحسناوات من جنس تسمين الوجه ونفخ الخدود، وتكبير الأرداف والمؤخرات بحشوات السيلكون.
ستجد (زعاطيط) من المراهقين عمرهم الفني لا يتجاوز الشهور، يقدمون استعراضات وجاهية مفتعَلة بالحركات والابتسامات، منتوفي الريش، ليس لديهم تاريخ إلا التهجِّي بحروف الزمن الأغبر الذي صنع لهم نجومية مزيفة، يستعرضون أمام جمهور بليد مهووس بالتفاهات؛ بينما أصحاب الفكر ورواد الفن لا مكان لهم في هذه البهرجة وهذا اللمعان، والاستعراضات الخائبة.
إقرأ أيضاً: سيرتي في الصحراء
ومثلما تكثر المهرجانات التافهة، تكثر المستشفيات بمرضى رواد العلم والثقافة والفن، ويكثر الجوع والعِوَز في بيوتهم، ويُصاب الكثير منهم باليأس القاتل، وتزداد الحسرة والألم في نفوسهم؛ لأنه لا أحد يسأل عليهم. أحزنني عتاب الفنان الكبير حسن حسني في كلمته أمام الجمهور: "خمسون عاماً في التمثيل والإخراج والمسرح والإذاعة والتلفزيون لم أحصل إلا على تكريمٍ واحد". عتاب يفطر القلب، وجرح لا يندمل، وخزي ما بعده خزي!
سأقول كلاماً صريحاً من الآخر، مهرجانات اليوم كأنها دعابة بليدة، مُثخنة بهوس المال والوجاهة، تنتشر فيها موبقات العُهر، والصفقات المريبة. وتلميع العديم والخالي، حيث النساء ضحية الواقع الملتبس بحلم الشهرة السريعة؛ فلا تجد فيها فناً ولا جمالاً، ماعدا بعض الحشود من الفاشنيستات والبلوكرات والإعلاميات من الصنف العاشر يتسيّدن المشهد من صناعة التافهين والتفاهة.
إقرأ أيضاً: العقل الجاف
مهرجانات أصبحت أبوابًا للفساد والمحسوبية والمجاملات، ووجهًا دعائيًّا لمرضى الوجاهة. وصفقات سرية على الجوائز بين المتعهد وأصحاب النقابات. صارت استعراضاً للمهووسين بالإطلالة الجميلة، والافتخار بالجسد والزوجات، وبالدروع الوهمية بالانتصار والخلود. وقد أمسك التافهون كلَّ شيء، بكل تفاهتهم وفسادهم.
لم تخلُ وسائل التواصل الاجتماعي من النقد اللاذع لها من قبَلِ الجمهور، والتعليقات الساخرة، والتندُّر المرير بما يحدث في هذه المهرجانات الفنية. واحدة قالت: (هؤلاء ليسوا مشاهير وإنما تشهير مخزي للواقع العراقي)، وردَّ عليها آخر: (والله خزي وعار... صرت أخجل أن أقول أنا عراقي)، وآخر استشاط غضباً على الدولة (وين قانون المحتوى الهابط، ما أعرف مقياس الهابط والصاعد عندكم)!
لكن أجمل ما قرأت لأحد الزملاء، يقول في مدوَّنته: ألا يُوجَد غيرهم في العراق، أولئك الذين يظهرون بصحبة زوجاتهم في المهرجان، ليسوا بفنانين ولا زوجاتهم فنانات ولا شعراء ولا رسامين. لا تختلف دورة مهرجان عن أخرى سوى بفتحات الفساتين!، في العام الماضي ظهرت الزنود وهذه السنة ما تيسَّر من الصدر.
والعام المقبل، سترى أبشع مما رأيت؛ ما تيسر من المخفي تحت الحزام، ومقدمات فاضحة ، ومؤخرات مهدرجه بغرسة السليكون .مثلما سترى مهرجانات إضافية للتفاهة والعهر والبذاءة تفوق أعداد مطاعم كباب أربيل، ومحلات الأحذية النسائية. وستتعرف على سماسرة جدد صاعدة ونازلة بمقياس ريختر!