يسعى تنظيم الإخوان المسلمين العالمي إلى تصوير حركة "حماس" العسكرية على انها الضحية والبطل في آن واحد، وهو تفسير لا يستقيم مع المنطق والعقل ولا مقبول منح "الإخوان" لقب البطل للذراع الفلسطيني، "حماس"، والضحية أيضاَ!
لا تخلو الثقافات من ظواهر مخالفة للتفكير العقلاني، فقد سيطر البكاء العربي المصطنع والمفتعل إعلامياً وسياسياً، والانفعال والمبالغة في التعبير والعاطفة مع القضية الفلسطينية في البيت الفلسطيني قبل خارجه!
موضوع البكاء ظاهرة عربية بجدارة بعد التحول من "ظاهرة صوتية" الذي وضع أساس حجرها الفكري عبدالله القصيمي، فالغرب يتحمس لتنظيم المظاهرات المعارضة للشأن السياسي الدولي والمناهضة لإسرائيل دون ذرف الدموع في السياسة والإعلام.
مع البكاء المصطنع والمفتعل عربيًا نتيجة هيجان العواطف منذ "طوفان حماس" والأحداث المأساوية في قطاع غزة، يلاحظ انجراف الكثير للهيجان والانفعال والتشنج وعلى مستويات شتى وبين فئات عمرية مختلفة، وهي ظاهرة عربية متأصلة في العقل والسلوك العربي تاريخيًا.
لا فرق بين خضوع البعض أو الكثير للبكاء المصطنع وتفضيل العاطفة على العقل، فالعدد لا يعني الكثير بالمقارنة مع طبيعة الأفعال العصبية الشديدة مع الأحداث الأخيرة في فلسطين المحتلة حيث خضع هؤلاء طوعياً إلى العودة إلى عصور تاريخية تتعلق بالقضية، حين جرى التركيز على بذور الصراع العربي-الإسرائيلي، وهو دليل على وجود أسرى للتاريخ وليس الواقع والمستقبل.
احتقنت حناجر وأقلام جماهير عربية بالكتابة المتشددة والهتاف العاصف والتظاهر بالتركيز على مفردات، كان لها حيز محوري تاريخي، وقد طواه الزمن فلسطينياً قبل أن يكون عربياً ودولياً أيضا.
تطغى الجوانب العاطفية والعفوية في العالم العربي وتحديداً بين بعض الكتاب والمهتمين والمراقبين للشأن الفلسطيني من جهة والنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي التاريخي والعربي منه أيضاً.
فحين غابت مفردات "كيان واحتلال صهيوني"، قامت قيامة حظيرة الجماهير المتشنجة بسبب غياب كلمة "الصهيونية" عن البيانات الرسمية، من دون إدراك أن التمسك بهذه التوصيف لن يقود لا اليوم ولا بالمستقبل المنظور إلى عودة فلسطين كاملة للعرب ونهاية اسرائيل كدولة، حُسم وجودها التاريخ السياسي والقانون الدولي وأصبحت عضواً فاعلاً في المنظمات الدولية ولها الحق كما للغير من الدول ذات السيادة المستقلة.
لست بصدد إشعال نيران الاشتباك القانوني والتاريخي، لأنني مناهض أساساً لمبدأ أن أكون أسيراً للتاريخ، وأقدر، بل أحترم كل الآراء الأخرى سواء التي تتفق أو تختلف معي، فالغاية تنحصر بالانتصار لعقلانية النقاش والتعاطي ببراغماتية سياسية وإعلامية مع هذا الشأن الفلسطيني المعقد نتيجة تشرذم فلسطيني أولا وعربي ثانيا حتى اليوم!
لا شك أن جرعات المزايدات الإعلامية والسياسية، لن تكون سوى وقود مؤقت لمزيد من التشنج والهيجان بالطرح والمعالجة غير الحصيفة والمتأنية فكرياً وسياسياً، لذا أتمنى أن يحظى هذا الأمر بالمراجعة الدقيقة لمصلحة الخروج من دائرة تاريخية مغلقة قابلة للجدل بلا نهاية، وصولاً إلى دائرة جامعة ومنفتحة لتتلاقى كل الجهود والمساعي نحو حل واقعي وعملي يضع حداً لهذا الصراع التاريخي.
في خضم ما نشهد من صدام دموي بشري ونزيف لدماء فلسطينية بريئة، لابد من التوقف عند بروز جديد لأجنحة الإسلام السياسي لتنظيمات فلسطينية كحماس والجهاد وغيرهما من المنضوية تحت تنظيم "الإخوان" العالمي، وربما هي مجرد مقدمات لهيمنة جديدة لجماعة الإخوان المسلمين في الكويت خاصة.
جُل ما أخشاه هو سيطرة حركات الاسلام السياسي على المشهد الفلسطيني السياسي، وتوهان الصوت المدني العربي والفلسطيني على حد السواء، وهو ما قد ينذر بتغيير جغرافي وسياسي خطير للغاية.
لزاماً، حتى بهذه الظروف الحساسة للغاية، عدم نسيان أو تناسي أو التغاضي عن التحالف الإيراني مع أحزاب عربية وتنظيمات فلسطينية ذات توجهات وأهداف طائفية موالية لطهران، وهو ما يعني مضاعفة توغل إيران في المنطقة العربية.
لسنا مع تجاوز أو التقليل من حجم وهول معاناة الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة وضحايا البطش والغطرسة الاسرائيلية، فالقوى المحبة للسلام بما في ذلك المؤيدة لإسرائيل، انصفت حقوق الشعب الفلسطيني وحقه بقيام دولته المستقلة وفقا لحدود 1967.
لا ينبغي أن يقع العقل والضمير العربي أسيراً لضحايا الانفعال والهيجان والاحتقان المسيس والعسكري المنشأ، فالحلول تكمن في التركيز على المفاوضات والحوار والحلول السياسية الناجعة وليس العسكرية، حين تسود الوحدة الفلسطينية قبل غيرها على الهدف والنهج نحو إنقاذ أجيال فلسطينية وعربية أيضاً.
إن خلط أوراق الديانة اليهودية مع الحركة الصهيونية بهذا الوقت بالذات، لن يقود سوى إلى صراع فكري سرمدي، قد يغذي سموم سياسية ليست بمصلحة أجيال اليوم والمستقبل من الشعب الفلسطيني والعربي ككل.
أمام هذه التحديات الخطرة، وفي ظل غياب دور عربي رسمي وقيادة حكيمة فلسطينية، لابد من التيقظ من ثمن الانحراف الفكري والسياسي وعدم الانقياد وراء سراب أهداف غير واقعية، قد تصب في مصلحة مشاريع ومخططات غير معلنة رسمياً، ولكنها حولنا وبيننا.