اقرأ تاريخ البلدان، وتطورها في التعليم، من باب الفضول أو المعرفة، وستجد منها دولاً سادت وتفوقت وتغيرت للأرقى، بالرغم من أنها كانت تمتلئ بالمستنقعات والبعوض والأبقار والبعران والأحجار الصخرية والرمال، وستفهم سر تفوقها، ودخولها إلى التصنيفات الدولية المتقدمة. والحكمة الصينية الجديدة تقول: "إذا أردت حصاد مئة عام فعلِّم َشعبًا".
وستكتشف أن ما بين سطور التاريخ والأحداث أسرار قوتها وابتكارها، وستندهش عندما تعرف أن أوطاننا توسع المقابر وتقتل العلماء، وتُذل كرامات البشر، وستعلم أنها خارج تغطية الزمن، وجاذبية نيوتن.
وستدرك أن التعليم هو الخلطة العجيبة لتقدُّم البلدان، وليس النفط والذهب والماس، وأن قياس تقدُّم دولة، يكون من خلال ما تنفقه على التعليم والمدرّس الناجح وتربية الأبناء، وأن المعرفة والمهارات هما عملة المستقبل.
لذلك لا نستغرب أن يحقق طلبة وطالبات سنغافورة وفنلندا وكوريا وهونغ كونغ واليابان أفضل النتائج بالرغم من خُلوِّ دولهم من الموارد الطبيعية، وأن طلبة وطالبات دول مثل: البرازيل والمكسيك والأرجنتين، الغنية بالموارد الطبيعية، حققوا نتائجَ متواضعة، مثلما هو حال معظم طلبة وطالبات بلدان النفط والموارد الغنية والثروات الكبيرة.
وسنكتشف سر التطور في تايوان كما يقول الصحفي الأميركي توماس فريدمان: عندما اختاروا الحفر والتنقيب في عقول أبنائهم بحثًا عن الإبداع بدلاً من الحفر والتنقيب في الأرض للحصول على المعادن؛ فالبشر هم الطاقة الوحيدة غير الناضبة والقابلة للتجديد.
وعندما سئل لي كوان، مؤسس سنغافورة، عن سر معجزة بلاده قال: لقد خصَّصت موارد الدولة للتعليم، وغيرت مكانة المعلمين من طبقة بائسة إلى أرقي طبقة في البلد! فالمعلم هو مَن صنع المعجزة وليس أنا.
وفي اليابان سُئِل الإمبراطور الياباني عن تفوقهم في التعليم؛ قال: تعلمنا من أخطاء الدول، فأعطينا المعلم حصانةَ الدبلوماسي، وراتبَ الوزير. بينما يرى نيلسون مانديلا أنَّ التعليم هو السلاح الأقوى الذي يُمكنك استخدامه لتغيير العالم.
وها هي الصومال التي كانت أفقر دولة في العالم؛ استطاعت أن تنتصر على نفسها بالتعليم، وتتقدم عالميًّا في النمو على 43 دولة، بعد نزاع استمر
27 عاما أُزهِقت خلالها أرواح نحو مليون صومالي.
وعندما سُئل الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ماذا فعلت؟ قال: عملنا بنظام العدل والمطابقة، وقد بدأتها بنفسي، واهتممنا بالتعليم، فأضفنا موادَّ منهجية لم تكن معروفة؛ كالثقافة الاجتماعية، واللباقة وطرق الحوار والتعامل، وطرق الحياة المتحضرة، والثقة بالذات، وجميع المهارات الناعمة والفنية.
يكفي أن تتمعَّن في تجارب التعليم ببعض الدول الصاعدة؛ ستصاب بصدمة نظام التعليم ومخرجاته: ففي اليابان تقوم الإستراتيجية على ما يُسمى بالتعليم المريح؛ حيث تقليل الأحمال المُلقاة على عاتق التلاميذ، من كثرة الحفظ والمعلومات المطالبين بحفظها، وإعطاؤهم المساحة الخاصة بهم. لكن الأهم تخصيص حصة كاملة لدراسة مادة الأخلاق، خاصة في المرحلة الابتدائية؛ إضافة إلى تدريس المواد القياسية من علوم ورياضيات وموسيقى.
إقرأ أيضاً: العشوائيات الديمقراطية
أما سنغافورة، فلها نظام تعليم مدرسي يُعد من أبسط وأكفأ الأنظمة التعليمية في العالم، وطلابها هم الأفضل أداءً في جميع أنحاء العالم. ويعتمد تعليمها على الأساليب المهنية النوعية والماهرة. ويقوم المنهج على مهارات حل المشكلات والتفكير الإبداعي التي تُمكنهم من مواجهة تحديات العالم الحقيقي، والتغلب عليها، مع تحقيق الجدارة في مواضيعَ ثلاثةٍ رئيسة؛ وهي: العلوم، والرياضيات، واللغة الإنكليزية. أما في التعليم العالي، فتؤكد سياساتها على التعليم التكنولوجي والمهني.
بينما تتفوق تايوان، على مراكز متقدمة بين خمسٍ وستين دولة في مرحلة الثانوية في مخرجات التعليم، مقارنةً بما تحققه من دخل من مصادرها الطبيعية. فأخذوا من اليابان مشروع التعليم مدى الحياة؛ فأسسوا 87 كلية للمجتمع، منتشرة في كل إقليم يقدم المعرفة دون شهادة، أي المعرفة من أجل المعرفة، وهو أمر غريب لا يمكن أن ينجح في أوطاننا المهووسة بوجاهة الشهادات!
في أوطاننا، التعليم مهدرج، وخرائطه غير واضحة الملامح، ومزاجه متقلب وخَرِب، ويخضع لتجارب بين سنة وأخرى: أمريكي، وبريطاني، وكندي، وبولوني؛ فلا يستقر على حال؛ حيث إنه مصاب بعقدة الآخر، لا هوية له ولا لون، ويعاني من عقمٍ جيني في هندسة المستقبل، ولا يتناسب مع عصر السيلكون والذكاء الاصطناعي.
إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟
أزماتٍ كثيرة يعيشها التعليم، حيث نظامه مهترئ بالأساليب التقليدية، والتلقين الممل، والنهج الاستبدادي للتدريس. مثلما يعيش في بيئة ملوّثة بالقمع والاستبداد والمفاسد، البعيدة عن العقل المبتكر والإلهام الإبداعي. وكلها تؤدي إلى خلق معرفة مشلولة، ونقص حاد في بروتين العلم. لذلك صدق القائل "برق ولا مطر، وأوراق ولا ثمر، وجعجعة بغير طحين".
والنظام التعليمي في بلادنا يقوم على حشوِ العقول بالخزعبلات العلمية والنظرية، المجردة من الحقائق؛ حيث منهج التعليم البنكي من المذكرات والمختصرات، التي تؤدي إلى فضاء التلقين والتجهيل؛ فيحجّم العلم ويختفي العقل النقدي، وتُقتل روح المبادرة والاستنتاج والاستدلال، والتفكيك والتأمل، والتفكير والنقد. وهذا هو سر ضجيج الجهل وضوضاء الجهالة في أوطاننا، وندرة المبدعين، وموت المخترعات العربية!
التعليم عندنا بات ملوثًا بالعقائد السياسية والدينية، والمال الحرام؛ فتجد مناهج التعليم تتأطَّر بالأيدلوجيا المبهرجة، ورائحة الحاكم والحزب، وتمتلئ بالفتن والكراهية والانقسامات المجتمعية؛ فلا نجد في أوطاننا مناهج الأخلاق، لا على الطريقة اليابانية، ولا على المنهج الإسلامي، ولا على أصول العلم في سنغافورة.
سنجد تجارب مبتكرة في نقل الطالب إلى الجامعة بثلاثة أدوار متتالية لأنه صار عالة على المدرسة والدولة، وفتح باب الاستثناءات لمن حاز على ألقاب البطولة والشهادة والولاء للحاكم، والانتماء للأحزاب! وأخيرا وليس آخراً بيع الشهادة العلمية بالمال!
إقرأ أيضاً: إشكالية المعارضة في الشرق الأوسط
فلا تصدق ما يُقال لك، ولا تعِش بمنجزات الماضي؛ لأنك ابنُ الحاضر. أُفرك عينيك، وسترى أنك تعيش وسط ركامات من المزابل والمياه الآسنة وبعران السياسة، وأن عقلك مملوءٌ بتعليم القرون الماضية، وطقوس وخرافات الماضي، وخلاياك مبرمج على الحفظ والتلقين والأناشيد الثورية؛ فتصير عبئاً على البشرية.
مفارقة حزينة، أن ينتج التعليم في بلدان "الكفر" المخترعات الحديثة، وبراءة الاختراعات؛ بينما في بلاد المليون "دكتور" يقتل التعليم الحكمةَ والبصيرة، ويصنع وهم المعرفة، ويشجع الفساد العلمي؛ فيخرِّج لنا السياسي الحرامي، والنائب الانتهازي، والوزير الفاسد، والحزب المصلحي، والشباب العاطل، والبيئة الملوثة بالمخدرات والحزن والنحيب، والطقوس الوبائية، وصنّاع التفاهات الرقمية. صرنا، ويا للأسف، نُصدر للعالم تعليم الفلافل والشاورما العربية!