: آخر تحديث
هاشتاك الناس

الألم العربي

24
24
18

كان الألم، ولا يزال، توأمَ الإنسان وقرينَه. فهو: نفسي (روحي)، وجسدي (فيزيائي)، وإيجابي وسلبي. الأول: يعني ألم الوجود والخَلاص والثورة على الذات، والثاني: يعني الشقاء والتعاسة. هناك مَن يربطه بمفهوم اللذة، وآخرون يربطونه بمفهوم ما وراء الميتافيزيقي، وغيرهم يربطه بالمفهوم الروحي والوجداني واللاهوتي، ومنهم من ربطه بالبعد الطبيعي والمادي والحياتي. وكلها تجارب في المعاناة أو في ألم الجسد، وفي كلا الحالتين هو تعبير عن فلسفة العقل وفلسفة الألم.

إن التألُّم هو ضرب من الامتحان أو الاختبار لطاقة الإنسان؛ لأنه محك صلابته الروحية، وتنقية معدنه الإنساني، وهو ليس ضعفًا أو انهيارًا؛ بل هو في كثير من الأحيان يقظةٌ روحية، ودافعٌ إلى الصبر، وتطلُّعٌ إلى التغيير إلى الأحسن. وقديمًا قيل: "ينعدم الألم متى تساوى الذهب مع الحجر".

نيتشه يرى الألم طريقًا للإبداع والإنتاج؛ فهو يصنع الإنسان العاقل والمُتفهِّم، وكلما أردتَ أن تكون ناجحًا بحثتَ عن المعاناة والفشل؛ وبالرغم من ذلك مات نيتشه داخل إحدى المصحات العقلية عام 1900، بسبب الألم الجسدي والعقلي. وميلان كونديرا يراه سر الوجود: أنا أتألم إذن أنا موجود، ودوستويفسكي يرى بأن الحقيقة لا تظهر إلا بالألم.

ويلخص أسخيلوس الألم في جملةٍ ذاتِ معنى عميق: "الألم يُعلّم الإنسان". أما جلال الدين الرومي، فيرى أن هروبك مما يؤلمك سيؤلمك أكثر، لا تهرب، تألم حتى تشفى، لأن مسبب الألم لنا هو أنفسنا بالأول والأخير. فالألم يؤدب صاحبه، يصقله صقلاً، يعلمه الصمت الطويل، ويوحشه من الناس. إنَّ للألم باطن فيه الرحمة. لذلك يُنصح أن "يبحث الإنسان عن الراحة في ذاته وليس في القصور والحصون"!

أما مُنَظِّرو الفلسفة، فقد استخدموا المنطق لتفسير الألم؛ فالفلسفة التشاؤمية ترى العالَم شرًا مطلقًا، وأنه مليء بالمعاناة التي لا تُطاق، والتي لا يمكن إيقافُها، ويرى مذهب الرواقية، أنه لا بد من ضبط النفس بشكلٍ صارم، والوصول بالروح لحالةٍ من اللامبالاة باللذة والألم. بينما ينطوي مذهب المُتعة على نظرية أخلاقية تدّعي أن اللذة والألم هما مقياس الخير والشر.

والأبحاث العلمية تقول إنَّ جيناتك يمكن أن تؤثر على كيفية إدراكك للألم. وهناك أدلة متزايدة على وجود العشرات من الجينات والخصائص التي تحدد حساسيتنا للألم، ومدى تفاعل الجسم مع المسكنات. مثلما تتأثر التجارب المؤلمة التي نعيشها في حياتنا بجيناتنا، التي تجعلنا أقل أو أكثر حساسية للألم.

فنحن نتعلق بالبشر، ونتعلق بالسلع والماديات والمجد، ونرغب في الشهرة والمال والعظمة (الفارغة). لذا عندما يفقد الإنسان هذه الأشياء، فإن الألم يتضخم، ويزداد القلق، وينهش اليأس روحه فتتزاوج مع عالم القلق والضياع؛ حيث يرى حياته بلا معنى ولا قيمة. وتظهر معادلة الألم وهي: في حالة الحصول (نتعلق)، وفي حالة الحرمان (نرغب).

رباط الكلام، الألم العربي يتجذَّر ويتناقل عبر الجينات، وهو نتاج تاريخ من ألم المصائب والأهوال والنكبات والظلم المُبرمَج. وقد عاشت الأُمة مع الألم وكأنه أفضل خيارات العيش السعيد؛ لذا تراها تتلذَّذ بالألم وتُسامره حتى في أيام وليالي الفرح والانتصار؛ فلقد خرجت عن قاعدة (الألم يُولِّد الإبداع) إلى قاعدة (الألم يُولِّد الأزمات)؛ حيث فضاء الحزن الدائم، والنحيب وألوان السواد، وإنتاج البشر المهووسين برذائل؛ مثل: (الحكم، والمال، والوجاهة، والنفاق والازدواجية وشهوة القتل!).

الألم العربي هو: أن نلهو ونفرح ونتلذَّذ بالمعذبين والمحرومين، الذين يئنُّون ويصرخون من حولنا، ويطلبون نجدتنا، فنهرب من مسؤولياتنا تجاه تلك العذابات التي تحدث على أرضنا؛ لذا من المُهدر للوقت أن يتعجب المرء من هذه الأيام التي يتموَّه الحق وتتبدَّل فيها المعايير، وصار العدل فيها أكثر تشويهًا، وتزييفًا وانحرافًا وانحدارًا.

الألم العربي هو: أن تكون مُقيَّدًا، مُكبَّلًا، مُحاصراً؛ في الوقت الذي من المفترض أن يكفل لك وطنك الحقوق والحريات كافة. وأن ترى بعينيك فوضى الدماء والدمار والفساد، وهذا العبث والهراء في الأوطان الذي لا يهدأ؛ دون استطاعتك للتغيير والإصلاح!

إقرأ أيضاًالرأس وليس أذرع الأخطبوط

الألم العربي هو: أن ترى أجيالًا من الشباب العربي تمتلئ بها شوارع المدن العربية، ببسطات السجائر والشوكولا وقناني الغاز و"جلكانات" النفط المهرَّب، وبيع المخدرات على المكشوف، وأن يعيش يومه في مقاهي اللهو والمحرمات والعبث الحياتي!

الألم العربي هو: أن ترى الآلاف بين مُهاجر ومقتول على الهوية، أو منتحر بعد أن انقطعت به سُبل الحياة، أو كانوا ضحايا الجهل والإرهاب والطائفية. لذلك من الغرابة أن يستشعر المرء الغربة في وطنه؛ بينما كان من الطبيعي أن يستشعر وجوده فيه، مُطعمًا من جوع، وآمنا خوف!

الألم العربي هو: أن تكون غريبًا في وطن ضاعت فيه الكرامة، وأن تبحث عن حق ضائع، وتجد كل مَن ليس له قيمة يتحكم بمصيرك في بدايته أو نهايته، ويُحوِّلك كل مَن حوْلك إلى إنسان عاجز؛ لا تُفكر أبعدَ من خطوات قدميك، وستجد مضمون حياتك عبارة عن تساؤل فحواه: كيف أوفِّر لقمة العيش، ليس إلا؟!

إقرأ أيضاً: ماذا ينتظر خامنئي؟ 

الألم العربي هو: أن تعيش في أوطان بلا أحضان!؛ تصحو وتنام على أخبار الدم المستباح، والتهجير والنهب والتعثير والردم والوحل والفساد. أوطان تمتلئ بخيمات اللاجئين والمهاجرين، وخيباتهم! وبقصص العذابات والآلام والأحزان والأوجاع؛ حيث أرتال من اليتامى والمشردين والمنفيين، والشهداء والقتلى، والفقراء والمظلومين، وأشلاء قتلى وأرض تحولّت كلها لقبور. وستلعن مَن غنى وأسمعك: "بلاد العُرب أوطاني"؛ وقد اكتشفتَ بأن بلاد العرب ليست بأوطانك ولا أوطاني!

الألم العربي هو: أن تعيش ظلمة الحياة في عصر حاكمٍ ظالم، سرَق أحلامك وفرحك ونقودك، وقادك إلى حرب البسوس والفجار وداحس والغبراء لتسكن في المقابر، بدلاً من مساكن العلم والزهور. لذلك أطفأ شمعة طموحاتك، لكي تنسى المستقبل، ولا ترى الأمل؛ بل صرت تحلُم أكثر، وتُمعن في الحلم بأن تعود إلى الوراء!

الألم العربي هو: أن يحيا المواطن حياته كلها بالألم في أوطان الجوع والقمع والظلم، وأن يحيا وكأنه ميت، وان تنطفئ روحه إلى الأبد؛ حيث ينعدم الشغف بالحياة، وتموت الرغبة والإحساس في القلب. والأقسى أن يبحث المواطن العربي عن وطنه، فلا يحصل على سكن في حياته، ولا كفن في مماته. "وطن كنا نحلم أن نموت من أجله، وإذا بنا نموت على يده". أين الوطن؟!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف