حين تشكلت حكومة محمد شياع السوداني كان هناك إتفاق بأن لا تتجاوز ولايتها سنة واحدة، يتم خلالها تشريع بعض القوانين المهمة مثل قانون النفط والغاز وتعديل قانون الانتخابات يعقبه إجراء الإنتخابات البرلمانية المبكرة. لكن الذي حصل أن حكومة السيد السوداني أقرت ميزانية معتبرة لثلاث سنوات قادمة في إشارة إلى أن هناك إحتمالية إستمرار هذه الحكومة للسنوات الثلاث القادمة أي إكمال مدة ولاية الحكومة المقدرة بأربعة سنوات. والأهم من ذلك هو قرار السيد مقتدى الصدر بتجميد عمل تياره لمدة سنة كاملة في إشارة واضحة إلى أن مسالة إجراء الإنتخابات المبكرة لم تعد مطروحة على طاولة النقاش. ويبدو أن مثل هذه الإجراءات جاءت بضغط أمريكي لإتاحة الفرصة أمام السوداني لإكمال مهمته وعدم وضع العراقيل والعقبات أمام خطواته الاصلاحية. وفعلا قام السوداني بإتخاذ العديد من الخطوات الجريئة لإحداث التغيير من خلال تحريك دعاوى قضائية ضد بعض المتورطين بالفساد حيث أن أعداد تلك القضايا في زيادة مستمرة وتكاد إجراءات الملاحقة تتجه نحو مساءلة الرؤوس الكبار وهذا أمر أراه حتميا بقادم الأيام. هذا إلى جانب تفعيل دور المحكمة الاتحادية العليا وهيئة النزاهة ودعمهما لملاحقة الفاسدين. والأهم من كل ذلك هو فرض رقابة صارمة على أداء الوزراء والمسؤولين الكبار بما فيهم قيادات عسكرية وأمنية ومحاسبتهم، فقد لاحظنا في الآونة الأخيرة أن رئيس الوزراء بات يتابع ويراقب بنفسه أداء الوزراء والمحافظين ويتخذ إجراءات صارمة بما فيها العزل من المناصب ضد المقصرين أو المهملين في وظائفهم، وهذا أمر لم يكن مألوفا في ظل حكومات المحاصصات الطائفية السابقة. ولعل الزيارات الخارجية التي يقوم بها السوداني إلى دول الجوار والدول الغربية والعربية بهدف إعادة العراق إلى محيطه العربي واستعادة دوره في المجتمع الدولي، قد ساعد إلى حد ما بتصفير الخلافات القديمة بين العراق ودول الجوار وبات العراق أقوى من ذي قبل ويتعامل مع هذه الدول ندا بند وليس عراقا ضعيفا تمزقه الخلافات الطائفية والسياسية كما في السابق.
والمراقب للوضع الأمني الداخلي يلحظ تغييرا كبيرا في مستوى الأمان من خلال رفع وإلغاء الكثير من الإجراءات الأمنية المشددة في العاصمة والمحافظات بما يساعد على استعادة الحياة الطبيعية للعراقيين، وكل ذلك يحصل بفضل متابعات رئيس الوزراء للأوضاع على الأرض.
أكاد أقول جازما بأن الإشارات الواردة من بغداد تشير الى أن السيد محمد السوداني هو المرشح ليكون رجل المرحلة القادمة في العراق وإنقاذ البلاد من الخراب والدمار التي لحقت به بسبب حكومات المحاصصات الطائفية البغيضة.
أما فيما يتعلق بالتعامل مع المكون الكردي وحكومة إقليم كردستان، نرى بأن السوداني يتعامل لحد الآن في إطار القانون والدستور من أجل اصلاح العلاقات مع الإقليم ولاسيما فيما يتعلق بتعامل الإقليم مع الثروة النفطية والموارد الجمركية، وتساعده في ذلك قرارات المحكمة الاتحادية المتتالية التي تصدر في إطار الدستور والقوانين. ففي البدء تمكنت الحكومة من خلال تحريك دعوى قضائية بالمحكمة الاتحادية لإستصدار قرار بعدم دستورية تصدير النفط الكردي بمعزل عن الحكومة الاتحادية. ثم حققت إنتصارا آخر بوقف تدفق النفط عبر الأراضي التركية من خلال اللجوء إلى محكمة باريس التي حكمت لصالح العراق وهذا ما أجبر حكومة الإقليم على تقديم تنازلات كبيرة للحكومة الاتحادية من أجل إحياء الحوار والتفاوض مع بغداد لحل المعضلة النفطية المستمرة منذ أكثر من خمسة عشر عاما. والآن يدور الحديث عن دعاوى أخرى لملاحقة شركة (كار) التابعة لبعض متنفذي السلطة في إقليم كردستان وطلب تعويضات هائلة عن النفط الذي صدرته الشركة خلال الأعوام الفائتة من بعض آبار وحقول كركوك. كل هذه الضغوط الاقتصادية سوف تسهم في المحصلة بوقف جانب كبير من الفساد وعدم الشفافية في الملف النفطي الكردي.
ومن جهة أخرى تعمل الحكومة الاتحادية من أجل إستعادة السيطرة على المنافذ الحدودية بين إقليم كردستان ودول الجوار، فقد بدأت محادثات بين الطرفين بالسماح لدائرة الرقابة المالية الاتحادية لمراقبة إيرادات تلك المنافذ، ومن جانب آخر يدور الحديث أيضا عن محادثات مع دول الجوار لاحلال القوات الاتحادية محل قوات البيشمركة التي تسيطر على أمن الحدود مع دول الجوار. والأهم من ذلك هو إصرار الحكومة الاتحادية والجانب الأمريكي على ضرورة تشكيل قوة خاصة من البيشمركة الكردية قوامها أربعة ألوية عسكرية تكون خاضعة لسلطة وزارة البيشمركة الحكومية حصرا، وهذا يعني خروج قوات البيشمركة من تحت سيطرة الحزبين الكرديين الحاكمين في كردستان، ولاأستبعد أن تتسع إجراءات السوداني لمكافحة الفساد لتشمل قيادات إقليم كردستان ومحاسبتهم عن مئات المليارات من إيرادات النفط المصدر خلال السنوات الماضية.
لقد تعاملت سلطات الإقليم مع بغداد طوال السنوات الماضية بصلافة شديدة وبروح من التعالي المرضي، حتى وصل العداء للعراق إلى حد إيواء عشرات الألوف من البعثيين السابقين في مدن كردستان إلى جانب توفير الملاذ الآمن لمئات الفاسدين والمجرمين القتلة الفارين من أحكام قضائية في المحاكم العراقية. وفي ذروة التحدي تجرأت سلطات الإقليم بتنظيم إستفتاء للإنفصال عن العراق، لكنها فشلت في تحقيق ذلك وخسرت نتيجة هذه المغامرة نسبة 51% من الأراضي الكردستانية التابعة لها في كركوك والموصل وأطرافهما.
في كل الأحوال يبدو من خلال قراءة متـأنية للإجراءات التي تتخذها حكومة السوداني ضد إقليم كردستان أنها تهدف بالأساس إلى نتف ريش السلطة في الإقليم وإضعاف سيطرتها المطلقة على أمور إقليم كردستان ووضع حد لتعامل الإقليم مع الحكومة الاتحادية بالتعالي وإعتبارها دولة داخل الدولة..