يعيش المشهد السياسي النمساوي تحولاً دراماتيكياً ومثيراً للجدل مع تكليف الرئيس الاتحادي ألكسندر فان دير بيلين لهيربرت كيكل، رئيس حزب الحرية (FPÖ)، بتشكيل الحكومة. هذه الخطوة تمثل لحظة فاصلة، تقلب الموازين السياسية التقليدية، وتضع النمسا أمام تحديات كبيرة!
بدأ كيكل مسيرته من الصفوف الخلفية، متجنباً الأضواء، مفضلاً العمل الاستراتيجي على التواجد في المشهد العام. لكن اليوم، يقف هذا السياسي المثير للجدل على عتبة المستشارية، مدفوعاً بشخصيته العنيدة، وموهبته الخطابية، وجرأته خلال أزمات كبرى مثل جائحة كورونا.
لطالما ركزت حملات حزب الحرية على قضية الهجرة، التي شكلت حجر الزاوية لنجاحاته الانتخابية. ولكن الأهم من ذلك هو استغلال الحزب لمشاعر الحنين إلى "ماضٍ بسيط" بعيد عن التضخم، الحروب، والتغيرات السريعة في المجتمع. كيكل، الذي يمثل دور "المدافع عن الشعب" ضد "النخب"، برع في تجسيد هذا الدور وقيادة حزبه إلى نتائج غير مسبوقة.
تكليف كيكل بتشكيل الحكومة يعكس تحولاً جذرياً للنمسا بعيداً عن الوسط السياسي التقليدي. فقد ظل حزب الشعب (ÖVP) تاريخياً يرفض التحالف مع حزب الحرية بقيادة كيكل، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع كشخصية مستقطبة. إلا أنَّ تغير القيادة داخل حزب الشعب بعد استقالة المستشار السابق كارل نهامر، وغياب الخيارات الأخرى، دفع الحزب إلى إعادة تقييم موقفه.
ومع ذلك، فإنَّ تشكيل حكومة بين حزبي الحرية والشعب يواجه عقبات جوهرية. بالرغم من توافقهما الظاهري حول قضايا مثل الهجرة، إلا أنَّ الخلافات العميقة في السياسة الخارجية، الاتحاد الأوروبي، وتوزيع الوزارات تجعل الطريق أمام هذا التحالف معقداً. كما أن موقف كيكل العدائي تجاه حزب الشعب في تصريحاته الأخيرة يعكس صعوبة بناء الثقة بين الطرفين.
إقرأ أيضاً: هل نعيش أزمة أخلاق؟!
أضف إلى ذلك ما تواجه الحكومة المحتملة من تحديات محتملة بقيادة كيكل، ومنها السياسة الخارجية، ومثالنا في ذلك موقف حزب الحرية من الاتحاد الأوروبي والتقارب مع روسيا ما يثير قلقاً وتخوفاً كبيراً، ناهيك بالوزارات الأمنية وبصورة خاصة الوزارات الأمنية، خاصة الداخلية والدفاع، ستكون نقطة خلاف كبرى. حزب الشعب يرفض بشدة منح وزارة الداخلية لحزب الحرية، بسبب تجربة كيكل السابقة في هذا المنصب والانتقادات التي واجهها، فضلاً عن السياسات الاقتصادية وما يروج له حزب الحرية لميزانية متوازنة وزيادة الإنفاق في قطاعات متعددة، تبقى تفاصيل التنفيذ غامضة. ومن المتوقع أن تواجه الحكومة تحديات في التوفيق بين مصالح الطبقات الاجتماعية المختلفة، ناهيك عن أنه وبحسب استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن كيكل لا يحظى بثقة كبيرة خارج قاعدة حزبه. وفقاً لاستطلاع أُجري قبل الانتخابات، فإنَّ 69 بالمئة من النمساويين لا يثقون به، مما يعكس انقساماً حاداً في المجتمع. كما أن دعم تحالف بين حزبي الحرية والشعب متساوٍ تقريباً بين المؤيدين والمعارضين (47 بالمئة لكل طرف).
والسؤال الذي بات يطرح، وهو لماذا يتحالف حزب الشعب مع حزب الحرية؟
إقرأ أيضاً: تجليات الحنين في الأدب
قرار حزب الشعب بالدخول في تحالف مع حزب الحرية يبدو محفوفاً بالمخاطر. السؤال الكبير هو: لماذا قد يقبل الحزب بالتحالف مع كيكل ويصبح شريكاً أصغر في الحكومة؟ الإجابة تكمن في الطبيعة البراغماتية لحزب الشعب. فالوجود في الحكومة يمنح الحزب فرصة للحفاظ على نفوذه وتأثيره في المشهد السياسي، خاصة في ظل غياب بدائل قوية. بينما يقترب هيربرت كيكل من تولي المستشارية، تواجه النمسا تحديات غير مسبوقة. تكليف كيكل يشير إلى انحراف عن السياسة التقليدية باتجاه نهج أكثر انقساماً. ومع ذلك، يبقى النجاح أو الفشل مرهوناً بقدرته على بناء التحالفات وتقديم حلول عملية للقضايا العالقة.
النمسا الآن أمام مفترق طرق، إمّا أن ينجح هذا التحالف ويقود البلاد إلى مرحلة جديدة، أو تتعمق الأزمات السياسية والاقتصادية، ما يفتح الباب أمام انتخابات مبكرة. في كلتا الحالتين، يظل المشهد السياسي مفتوحاً على جميع الاحتمالات، في وقت يحتاج فيه البلد إلى قيادة حكيمة لتجاوز تحدياته.