بعد عقود طويلة من الحروب والويلات والصراعات الطائفية والقومية، وبعد فشل العديد من أنظمة الحكم الشمولية والدكتاتورية العسكرية وفشل الكثير من خطط التنمية والإصلاح الإقتصادي والاخفاق في تكريس الموارد الهائلة للدولة في بناء مجتمع حضاري متقدم. وبعد الدمار الكبير الذي خلفه النظام الفاشي لصدام حسين، كاد الشعب العراقي أن يستعيد أنفاسه بعد سقوط هذا النظام ممنيا نفسه بالوعود الخادعة للولايات المتحدة بتحرير العراق وإشاعة الديمقراطية الحقيقية في البلاد. لكن الذي حصل بأن العراق إستعصى على فهم دروس الماضي والخراب الذي حل به، حيث تسلطت عليه نخبة سياسية جديدة أفسد من النظام السابق وخسر البلد بذلك فرصة ذهبية أتيحت له بإستعادة الحياة الحرة الكريمة للمواطن العراقي.
لو دققنا النظر في تصريحات بعض الساسة العراقيين حول حجم الفساد الهائل والأموال المسروقة من الدولة والتي تصل حسب بعض التقديرات إلى ما يقرب 600 مليار دولار، سيتبين لنا بأن هذه الأموال الطائلة كان بإمكانها أن تبني عراقا جديدا يقف بمصاف الدول المتقدمة، خاصة وأن العراق يمتلك موارد بشرية وكفاءات علمية وثروات طبيعية هائلة تساعده أن تكون بمصاف الدول التي نهضت بإقتصادها وغيرت وجه تاريخها مثل بعض الدول الآسيوية والأفريقية التي نهضت من كبوتها وبنت إقتصادا متقدما وأحدثت ثورة تنموية شاملة جديرة بالثناء والإعجاب.
والخطأ الأكبر الذي إرتكبته الولايات المتحدة الأمريكية بعد إسقاط النظام السابق هو تكريس محاصصة طائفية مقيتة لحكم عراق ما بعد صدام حسين، وهي تجربة فاشلة سمحت بقدوم نخبة سياسية غير مؤهلة لإدارة الحكم وغير مؤمنة حتى بوطنيتها، تغلب مصالحها الشخصية والطائفية والقومية البغيضة على مصالح الوطن الجريح النازف، وبذلك أغرقت البلاد في مستنقع الفساد وهدرت أموال العراقيين وذهبت مجملها إلى جيوب حفنة من الفاسدين وعصابات المافيا التي لم يألفها العراق سابقا.
وفشلت جميع الحكومات المتعاقبة في عراق ما بعد صدام حسين بإنهاء هذه المحاصصة البغيضة، وعجزت السلطة تماما عن معالجة مشكلة الفساد برغم تغير وجوه تلك الحكومات. والمشكلة الأساسية بنظري هي أن الفساد أصبح حالة عامة شملت كل أو معظم أقطاب النخبة السياسية الحاكمة، بحيث لا يقدر أحد على محاسبة الآخر لأنه هو نفسه متورط بالفساد ونهب الأموال. وعلى قاعدة (لو كان بيتك من زجاج فلا ترمي بيوت الناس بالحجارة) سكت الجميع وتعاظمت مستويات الفساد وإنتشر بجميع مرافق الدولة من أدنى الدرجات الوظيفية إلى أعلى مرافق الدولة. فالموظف الذي يرى مديره فاسدا، لا يتوانى بدوره من جرائم الرشوة والتلاعب والسرقة، وكذا المدير الذي يرى وزيره سارقا وفاسدا، لا يخاف من المحاسبة، وهكذا عم الفساد جميع الدرجات العليا من رؤوساء الوزارات والأحزاب والكتل السياسية. فبتنا نسمع عن ضلوع رؤوس كبار في الدولة بقضايا الفساد التي باتت معظمها مودعة في رفوف المحاكم وهيئة النزاهة ولم يحن الوقت بعد لتحريكها ضد الرؤوس الكبار، فما يحدث الآن لا يتجاوز ملاحقة بعض الأسماك الصغيرة، أما الحيتان الكبيرة فما زالت تسبح في بحر الفساد إلى يوم معلوم.
مع ذلك فإني أرى بعض المؤشرات تلوح في الأفق تشي بحدوث نوع من التغيير وإن بدا بطيئا لحد الآن، لكن ملامحها تشير إلى عواصف قادمة قد تجتث هذه الظاهرة المقيتة أو على الأقل ستضع لها حدا معقولا. وأعتقد بأن الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي ساعدت على التغيير في العراق قد ضاقت ذرعا بما يحدث في العراق، وأن هذه الدول أخذت تراجع حساباتها فيما يتعلق بدعم العراق، وطبعا هذه المراجعة مرتبطة بالدرجة الأساس بمصالحها في العراق والمنطقة، ولذلك نرى بأن هذه الدول باتت تضغط على النخبة السياسية بالعراق من خلال إجراءات إقتصادية صارمة من جهة، وكذلك من خلال إنتقادات حادة لحالة حقوق الإنسان والحريات في البلاد عبر تقارير وزارة الخارجية الأمريكية والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان. ولعل الضغط الكبير فيما يتعلق بأزمة الدولار الأمريكي هو أحد وسائل هذا الضغط الغربي، وقد تكون رسالة مباشرة إلى الحكومة العراقية بضرورة الإنصياع للضغوط الأمريكية.
وبناءا على هذه القراءة أرى بأن إختيار السيد محمد شياع السوداني دونا عن كل قادة وأعضاء الكتل السياسية والسياسيين المخضرمين لإدارة شؤون الدولة في المرحلة القادمة يشي بأن هناك تغييرا سوف يحدث في العراق بقابل الأيام. فمن خلال أداء السيد السوداني خلال الفترة القصيرة من إدارته نجد هناك خطوات كبيرة وجريئة أقدم عليها لم يستطع سابقوه أن يخطوها أو إحترسوا من الإقدام عليها لاعتبارات عديدة. فقد إتخذ السوداني بعض القرارات التي كانت عصية على من سبقوه، وهذا بالطبع جرى بدعم من الإدارة الأمريكية حتى أن بعض قيادات العراق إنتقدوا صراحة إجتماعاته ومشاوراته المستمرة مع السفيرة الأمريكية في بغداد، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن السوداني يستند إلى دعم أمريكي في خطواته نحو الاصلاح، خاصة وأنه لا يمتلك كتلة برلمانية أو ظهير حزبي يسانده في مسعاه. وسوف أحاول في المقال القادم توضيح وبيان بعض تلك الخطوات الاصلاحية وما ستتمخض عنها من نتائج ستساعد على إحداث التغيير المنشود في العراق مستقبلا.. فإلى اللقاء..