لعل التساؤل الأهم فيما يتعلق بالوضع اللبناني هو هل يمكن للدولة وقف الانهيار السياسي والاقتصادي الذي تمر فيه؟ وهل بالإمكان عودة لبنان إلى مرحلة تتمكن فيها الحكومة من القيام بمسؤولياتها تجاه مواطنيها؟ ولعل الإجابة المنطقية هي عدم قدرة لبنان منفرداً على تخطي أزمته دون مساعدة خارجية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
من المسلم به أن الدول في هكذا أوضاع تسعى إلى تصفير مشاكلها السياسية، لتقليل كُلف المواقف التي قد تُعمق من أزمتها وتقود إلى انفجار اجتماعي جراء الظروف المعيشية الصعبة، إلا أن ما يحدث في لبنان يخالف المنطق تماماً ففي الوقت الذي يحتاج فيه إلى علاقته الدولية والعربية وتحديداً الخليجية، يتم إشعال فتيل أزمات سياسية والتعنت في حلها مع المجموعة الأكثر مساعدة له سواء عبر الدعم المالي المباشر أو الاستثمارات والتبادلات التجارية والسياحة واستقطاب العمالة.
الأزمة الأخيرة ينطبق عليها المثل القائل "القشة التي قصمت ظهر البعير"، فلبنان اليوم يدفع ثمناً باهضاً لأزمات إقليمية أكبر منه، فتصريحات جورج قرداحي وقبلها قضية المخدرات وشربل وهبة ليست سوى رأس جبل الجليد لأزمة ممتدة عنوانها العريض التدخلات الإيرانية في المنطقة، وهذا ما لا يخفى على أحد فالحزب واضح السياسة والتوجه، ولن يكون يوماً إلا مع سياسة طهران، ومنفذاً أميناً لها، ولو على حساب الشعب اللبناني الذي يعاني وضعاً معيشياً أشبه بالكارثة الإنسانية.
مشكلة لبنان أنه يعيش حالة أقرب إلى "الكانتونات" فالكل يحدد توجهاته وحلفائه دون أن يكون للدولة الجامعة رأي في ذلك، وهذا ما يؤكده جنوح بعض التيارات لاتخاذ مواقف سياسية تؤذي لبنان وشعبه تماشياً مع ارتباطاتها الخارجية، ودون التفكير بالانعكاسات التي قد تُعمق من الأزمة الداخلية والتي من المرجح أن تؤدي في حال استمرارها إلى "الارتطام الكبير" .
التيارات اللبنانية بالغالب لديها مشكلة مع الدولة وترى أنها منافساً لها لا جزءاً منها، وأن مصالحها الحزبية وتوجهاتها المذهبية والعقائدية والطائفية أكبر من أن تنضوي تحت كيان سياسي يمثل الجميع ويعمل لخدمتهم، لذلك لم يكُن يوماً في حسابات هذه التيارات خطوط عريضة حمراء لا تتجاوزها لضمان عدم الإضرار بعلاقات لبنان الخارجية.
ما يحدث في لبنان أكثر تعقيداً وتشابكاً من مجرد تصريحات عبثية، بل بيد تيار على استعداد لخنق لبنان وحشره في الزاوية وفصله عن محيطه العربي الطبيعي دون أن يتراجع قيد أنملة عن مواقفه التابعة والمنقادة لأجندة خارجية معروفة، وحل ازمة لبنان لن يكون إلا ضمن تسوية سياسية إقليمية شاملة لمختلف القضايا التي تشغل المنطقة، وعلى رأسها التوقف عن تبني سياسة تصدير الثورة ووقف تدخلاتها في شؤون الدول الداخلية بحجة مسؤوليتها المذهبية تجاه رعايا دول أخرى دون أي اهتمام بمبدأ السيادة الوطنية وتبعية هؤلاء الأفراد لدولهم.
بالمحصلة لبنان بحاجة إلى سياسيين يضعون الدولة ومصلحتها العليا في صدارة أولوياتهم، وإلا ستبقى الدولة تترنح والشعب يدفع ضريبة باهظة لمواقف لا تمثله ولا تمثل مصالحه، والاستمرار في هذا الطريق نتيجته حتمية وهي دولة جديدة تنظم إلى قائمة الدول الفاشلة.