: آخر تحديث
سيرةٌ حافلة بين القلم والطب والنضال الوطني

العجيلي .. أديب متعدّد المواهب

43
45
34

الكثيرون منا يعرفون الأديب الدكتور عبد السلام العجيلي سواء معرفة شخصية وعن كثب، أو حتى عن بعد، أو ممن سبق له أن سمع باسمه، أو قرأ له نصاً من نصوصه التي تناولها ووقف عندها، لا سيما أن صيته ترك صدىً مدوياً لدى الكثير من عشاقه من المثقفين.

العجيلي ليس أسما فحسب يلوك به لساننا، وحروفاً نلهي بها ساعات قد نقضيها في حوار، أو حديث يجمعنا مع أصدقائنا، أو على هامش محاضرة، أو أمسية شعرية. لا أبداً، فهو أديب متعدد المواهب ومكانته أكبر من ذلك بكثير.

 العجيلي اسم له رمزيته في الساحة الأدبية وترك ارث كبيراً من المؤلفات المطبوعة المتداولة بين شريحة واسعة من الناس الذين يقرأون ما يكتبه، ناهيك بالمترجم منها إلى عدّة لغات أجنبية، ومنها ما زال مخطوطاً بانتظار الافراج عنها تبحث عن أيدٍ أمينة لتحويلها إلى كتب يتداولها العامة، وتعود عليهم بالنفع وقت ما يشاؤون.
 


الأديب عبد السلام العجيلي خلال إحدى ندواته

العجيلي مدرسة في الطبّ والأدب، وفي الحياة العامة أيضاً، وكذلك في سلوكه اليومي الذي طالما يخرج علينا بمقالاته التُحفة في مجلة الدوحة القطرية في ثمانينات القرن الماضي، ومنافستها العربي الكويتية، وما كتبه قبل ذلك في دوريات لها أسمها ومكانتها: كالأديب، الآداب، الثقافة، المعرفة، الناقد، الموقف الأدبي، ناهيك بالدوحة والعربي، وحتى في هذا المجال لم يكن يفوته حضور أي لقاء رياضي سواء أكان رسمياً أو ودّياً بين أندية مدينة الرّقة الرياضية التي ولد وعاش فيها، وبصورة خاصة نادي الفرات الرياضي العاشق والداعم له.. والذي أرسى دعائمه إلى جانب شيوخ المحافظة، وكبارها من المعروفين المشهود لهم بالرفعة والسمو، وسعة الأفق، ومحبّة الناس لهم.

وسبق لي أن التقيت الأديب العجيلي في أكثر من مرة في عيادته الخاصة القريبة من بيته الذي يتألف من طابقين. في بيته العامر بضيوفه الزائرين من أصدقاء الزمن الجميل من معارفه من خارج الرّقة، وبصورة خاصة في أثناء حضورهم للمهرجانات التي كانت تقيمها مديرية الثقافة بالمدينة وتحتفي بهم وبالأدباء المبدعون العرب، وطالما كانت الرّقة حاضنة للندوات والمهرجانات، ومن أهمها: الندوة الدولية لتاريخ الرّقة التي أقيمت في أكتوبر عام 1981، إضافة إلى مهرجان البادية الأول الذي أقيم في عام 1982، وحضور بعضها الشاعر المخضرم نزار قباني، ومظفر النواب، وأحمد فؤاد نجم، وأعقب ذلك مهرجان العجيلي للرواية، وغيرها كثير وكانت تحمل هذه الندوات والمهرجانات المكان المميز والحضور اللافت لا سيما أنه يحمل اسم العجيلي، لما له من مكانة وحضور، وطالما كان يشارك في بعضها قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى في عام 2005، وكان يشارك فيها لأنه يعد رأس الهرم الثقافي والمعرفي والعشائري في الرّقة، وهو الابن المدلل لها والعارف بكل صغيرة وكبيرة فيها، والمرحّب بالمثقفين الضيوف الذين يتشرف باللقاء بهم في زيارتهم له في بيته حيث يقيم.

بحضور العجيلي الذي كان يعمل طبيباً قبل أن يكون أديباً وسياسياً، والذي كان له حضوره ومكانته ليس على مستوى محافظة الرّقة التي ولد وعاش فيها وإنما على اتساع الوطن العربي الكبير، وحتى خارجه لا سيما أنه كان تواقاً وعاشقا للسفر، وفي هذا المجال صدرت له عدداً من الكتب التي تبحث في السفر: خواطر مسافر، ودعوة إلى السفر، وغيرها من المقالات المتعدّدة والمحاضرات التي تعنى بهذا الشأن.
 


غلافٌ لأحد منتاجاته القصصية


في الواقع العجيلي يُعد مدرسة في العطاء والتجديد. في حواراته يغنيك بحديثه المشوق الذي يمتّعك بمتابعته وحضوره، ولا يبخل على أي من الزملاء في حديث ما سواء للصحافة أو التلفزيون، أو أي جهة إعلامية أخرى، ولم يقصّر يوماً مع أحد من الشباب الراغبين في اجراء حديث صحافي معه، وبدون موعد مسبق. إنسان معطاء ومحب وعاشق لعمله، وللأدب الذي أخذ الكثير من وقته وجهده لجهة الوصول إلى الابداع والتميز في أحاديثه، وفي حضوره.

وفي حوارك معه تُسعد وتستمتع، ويُبهجك استرساله في الحديث، ما يدفعك ذلك إلى الاصغاء إلى إجابة السؤال الذي يفضي به سواء لإعلامي أو لصحافي، أو لمثقف ما ومحاولة نقل ما يدلي به بأمانة إلى الجهة التي ينتمي اليها. وما على الاعلامي سوى ضغط زرّ التسجيل والاصغاء لما يدلي وينطق به.
بحضور العجيلي يستمتع الكاتب والصحافي والأديب والمستمع أياً كان وهو يتحدث عن موضوع بعينه، لا يملّ ولا يكلّ كل ذلك يثري معلومات وأفكار المتلقي لحديثه ويسرقك الوقت بعيداً، وتحاول تدارك ذلك بطرح الأسئلة باقتضاب شديد تفادياً من ضياعه في مهب الريح يجري مهرولاً وعندها لا يمكنك اللحاق به.

في هذه الوقفة نحاول أن نبرز جانباً مظلماً من حياة العجيلي.. الأديب والسياسي والطبيب الذي ما زال يسكن في قلوبنا وفي وجداننا، ونعيش تلك الأيام التي جمعتنا يوماً بحواراته ونقاشاته وسعة اطلاعه، وفي لقائه الطيّب، وتشريفه مكتبة الخابور التي يزورها باستمرار باعتبار أنها لا تبعد عن منزل اقامته بضعة أمتار، للاطلاع على آخر ما صدّرته دور النشر من كتب، ومتابعته ما كان ينشر في الدوريات العربية التي يكتب فيها بصورة دائمة، فضلاً عمّا كان يكتبه في الصحف المحلية السورية والسعودية وغيرها.
ومن يتابع، وبإمعان شديد، ما تناوله الأديب الراحل عبد السلام العجيلي خلال فترة عمره الذي قضاه مطالعاً نهماً، وناقداً حذقاً ومتمكناً لكتب الأدب والتراث، ودراسة الطبّ في جامعة دمشق، بعد أن أنهى تعليمه الثانوي في مدارس حلب، واهتمامه بالشأن العام، أضف إلى تسلّمه حقائب وزارية متعدّدة، وعضواً فعالاً في مجلس النواب، ومشاركاً في جيش الإنقاذ مدافعاً عن قضية فلسطين الكبرى، يجد هناك الكثير من المفارقات، ولا ننسى في هذا المقام دوره في كتابة المقال الأدبي، وتناوله بأسلوب منمّق ومفهوم وسلس.

فالأديب الراحل يُعَد علمٌ من أعلام سوريا المبدعين، ومن أبرزِ كتّاب القصّة القصيرة في الوطن العربي، وممن خاضوا تجارب عديدة ومتنوّعة في الحياة، سواءٌ في الجانب الأدبي أو الشخصي. 
 فالأسفار، والعلاقات الإنسانية، والعمل، والكتابة الأدبية، ومستجدات الحياة اليومية، وما يعتريها من أحداث ـ جميعها لها مكانةً خاصةً لدى الكاتب!
 


الأديب عبد السلام عجيلي في إحدى مقابلاته

وعندما نغوص في أعماق ما كتبه العجيلي، فإنَّ معظم ما تناوله نابع من التراث أولاً، والبيئة الفراتية الغنية ثانياً، والتي أغنت ثقافته الفكرية، وأسهمت في إبداعاته، وفي غزارة إنتاجه وبالتالي، خرج بنتاج أدبي متنوّع يندر تناوله، وهذا هو مفتاح نجاحه وشهرته .. أضف إلى ذلك مطالعاته الدائمة في بطون أمهات الكتب في سنّي دراسته الأولى، ومتابعته لما يُكتب، وحفظه للشعر العربي القديم، وما يملكه من حسّ أدبي منذ اليفاعة أضفى جميع ذلك على عطائه الإبداعي وأغناه.

لقد كتب العجيلي الكثير من النتاج في الأدب الساخر، ولا سيما في سنّي ممارسته الأولى للكتابة، كانت تُثيره، أو تدفعه إلى هذه الكتابة المفارقات، والمتناقضات التي تبدو لعينه أو لفكره فيما حوله، من أحوالٍ وأمورٍ وأناس.

في أوائل عهده بالإنتاج الأدبي، لم يُطلب منه آنذاك أن ينشر، لذلك لديه ركام من الكتابات الساخرة، لم يُنشر، لأنه في كثيرٍ من الأحيان يتعلّق بعلاقات إخوانية، تهمّ الآخرين، وقد يكون نشرها مسيئاً إذا لم يفهم القارئ الظروف التي كتبت وأبدعت فيها، ومع ذلك فإنّ فصول أبي البهاء، هي فصول ضاحكة، كتبها في عهدٍ متأخر، في زمنٍ متأخر، في الثمانينات، وليس فيها إساءة إلى أحد، ولكن أراد أن يُظهرَ فيها تناقضات المجتمع، ونسبت كثيراً من أحداث الفصول إلى شخصية ضاحكة، ساخرة، حقيقيةً هي أبو البهاء، الذي كان أحد معارفه.

العجيلي أديبٌ متعدد المواهب، وقد كان هناك أدباءَ كبار في أسمائهم، وفي منزلتهم، ولم يرتبط بصداقات معهم، بل أنه ارتبط مع أصدقاء من أصناف مختلفة مشاربهم، من متسكّعين، ومتشرّدين، وفقرّاء، وشذّاذ، لأن صفاتهم النفسية كانت قريبة إلى قلبه. 
عشق العجيلي صنوف الكتابة والأدب، ناهيك عن الكتابة في مجال التاريخ والفلكلور وعن الرّقة وتاريخها، وزاده هوس بناء مدينته، وعشقه هواءَها، وظلّ ينقل خطواته الواسعة بين مدينة الرّصافة والرها، ومدينة تدمّر، ولم يهجرها في تناوله لها.

أبو بشر تعلّمنا منه الكلمة الطيبة، والأخلاق العالية، والحكمة المؤداة، والقول الفصل، والحب الصادق، وروح الكاتب الهاوي التي لم تعرف يوماً روح المحترف.
 فقد أخذ أديبنا الراحل من الدنيا الكثير .. كتب وزار وحضر العديد من الندوات، كما كان عضواً في مجلس النواب ووزيراً، ولأكثر من مّرة، فضلاً عن عشقه وحبّه للأدب، وكتب في الكثير من المجلات الأدبية والثقافية، كـ "الدوحة" القطرية، و"العربي" الكويتية و"الديار" البيروتية... وغيرها.

ويعتبرُ العجيلي كلّ ما يمارسه في الحياة، هو هواية، حتى عمله الطبّي، كان يُمارسه بروح الهاوي ليس بروح المحترف! . والأدب كذلك هواية، بالنسبة له، ويصرّ دوماً على أنّه هواية أكثر من غيره.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات