: آخر تحديث

عائدًا من الرياض

16
17
18
مواضيع ذات صلة

منذ سنوات طويلة، وتحديدا خلال الفترة اشتغلتُ فيها مراسلا لجريدة "الشرق" ومجلة "المجلة" (التسعينيات وبداية الألفية)، التهب حماسي لزيارة المملكة العربية السعودية.

ازداد هذا الحماس التهابا بعد أن توطّدت علاقتي بالعديد من الصحافيين والأدباء والفنانين السعوديين. وكان هؤلاء يُزيلون في كل مرة ألتقي بهم، وأجلس إليهم، تلك الأفكار المُسْبَقًَة التي ترسّبتْ في أذهان جيلي، جيل السبعينات الذي كان مفتونا بالثورات، وبالأفكار اليسارية القادمة من موسكو، ومن كوبا، ومن بيكين، ومن فيتنام. 

تحت تأثير تلك الأفكار، كان أبناء جيلي يضعون كل الأنظمة الملكية العربية في خانة" الأنظمة الرجعية المتخلفة"، و"العميلة للغرب الاستعماري والامبريالي". وكانوا يفعلون ذلك من دون الاستناد إلى المعطيات الموضوعية لهذا النظام الملكي أو ذاك. وهو ما يتناقض مع المفهوم الماركسي الذي يقوم على التحليل المعمّق للبنى التحتية والفوقية، وللطبقات الاجتماعية، ولطبيعة الأنظمة. 

عندما تخلصت من أوهامي الأيديولوجية، وكان في ذلك في نهاية السبعينات من القرن الماضي، بدأت أتفحّص الواقع والقضايا السياسية والاجتماعية والثقافية بتمعن ودقة، بعيدا عن الشعارات الجوفاء، وعن التحاليل الفضفاضة والجاهزة. وشيئا فشيئا اكتشفت أن وضع الأنظمة الملكية في خانة "الأنظمة الرجعية الموالية للغرب الإمبريالي" خاطئة ومُضللة إلى حدّ بعيد. 

قادتني قراءتي للتاريخ العربي المعاصر إلى حقائق خلصتني نهائيا من ترسبات الأيديولوجيات التي كنت بها مفتونا في سنوات الشباب الغاربة. وأول هذه الحقائق هو أن الأنظمة الملكية العربية لم تفسد الحياة في مجتمعاتها، ولم تسلط علبها مظالم مثلما فعلت الأنظمة الجمهورية "الثورية" منها بالخصوص. لذلك كتبت في جريدة "الشرق الأوسط" مقالا بعنوان:" ملكيات من ذهب وجمهوريات من نحاس " حرصت فيه على دحْض التحاليل الخاطئة والمزيفة التي حجبت حقائق الواقع، وقادت المجتمعات العربية مشرقا ومغربا إلى أزمات خطيرة على جميع المستويات، بل إلى الاقتتال والحروب الأهلية. كما كانت سببا في العديد من الهزائم المهينة في المواجهة مع إسرائيل. 

وفي التسعينات من القرن الماضي، شغفت بالتعرف على تاريخ وواقع بلدان تحكمها أنظمة ملكية. وكانت المملكة العربية السعودية في مقدمة هذه البلدان. عنها وعن تاريخها قرأت العديد من المؤلفات القيمة مثل "أعمدة الحكمة السبعة" للبريطاني توماس ادوارد لورنس، الملقب ب"لورنس العرب"، وكتب المستشرق البريطاني الآخر جون فيلبي الذي كان مستشارا للملك عبد العزيز آلا سعود في الشؤون الخارجية، وأيضا كتاب الأديب اللبناني الكبير أمين الريحاني "ملوك العرب" الذي روى فيه بطريقة ساحرة سفراته وتنقلاته عبر المملكة في بداية تأسيسها، راسما صورة رائعة عن الملك عبد العزيز، مُبرزا جوانب من شخصيته الفذة، ومن دهائه السياسي، وبعد نظره الذي أتاح له إقامة مملكة على رمال الصحراء العربية، مُوحدا القبائل المُتناحرة، ومخترقا بقوة العالم الحديث، ومواجها القوى العظمى بديبلوماسية ذكية ولينة تنهض أساسا على الحفاظ على مصالح بلاده، وعدم التفريط فيها. وقد قرأت كتاب امين الريحاني أكثر من مرة لعذوبة أسلوبه، وسلاسة لغته، ودقة وصفه للشخصيات والرجال الذين التقى بهم. وعن لقائه الأول بالملك عبد العزيز كتب يقول: "خرجنا نخفّ إلى استقبال الزائر الكبير، فإذا هو قد خفّ إلينا، وفي معيّته اثنان فقط من حاشيته، قلت للزائر وهو الذي جاء تلطفا وتنازلا أن يعكس الآية، وكانت المشاهدة الأولى على الرمل، تحت السماء والنجوم، وفي نور النيران المُتّقدة حولنا، ألفيته رجلا لا يمتاز ظاهرا بغير طوله، وكان يلبس ثوبا أبيض، وعباءة بنيّة، وعقالا مقصيا فوق كوفية من القطن حمراءّ. 

زاد كتاب أمين الريحاني في تأجيج رغبتي في زيارة المملكة، غير أن السنوات كانت تمر بسرعة من دون أن تتحقق رغبتي. وكان عليّ أن أنتظر خريف هذا العام لكي أزور المملكة بدعوة من وزارة الثقافة للمشاركة في فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالعاصمة الرياض. ومنذ وصولي إلى المطار، أصبت بصدمة...لكنها كانت الصدمة الجميلة والايجابية التي لازمتني على مدى الأربعة أيام التي أمضيتها هناك، والتي جعلتني أشعر أن ما كنت أراه وأتحسّسه فاق كل تصوراتي. وأول ما لفت نظري هو أن الحداثة في المملكة ليست شعارا فضفاضا، ولا خطابا مُضللا، بل هي مُجسّدة في الواقع أفضل تجسيد. ويتجلى ذلك في النظام، والدقة، واحترام الوقت، وانسجام العمران مع طبيعة البلاد. كما تتجسّدُ في الانفتاح على حضارة العصر، وعلى الثقافات الأخرى من دون التخلي عن خصوصيات المملكة في جميع المستويات. وأثناء طوافي في أجنحة المعرض، عاينت أن دور نشر سعودية تولي اهتماما كبيرا لنقل الآثار الفكرية والفلسفية والأدبية إلى اللغة العربية. وهو مشروع تنويري يهدف بالدرجة الأولى إلى فتح الأفاق المعرفية أمام الأجيال الجديدة لتجنب كل أشكال التزمت، والتطرف، والكراهية. 

من ذلك مثلا أن دار "أدب" للنشر التوزيع تعرض في جناحها البعض من أمهات الكتب مثل كتاب :"العلم الجديد-في الطبيعة المشتركة لكل الأمم" للإيطالي جيامباتيستا فيكو الذي نقله إلى العربية التونسي د. أحمد الصمعي الذي كان قد نقل من قبل إلى العربية رائعة امبرتو ايكو :"اسم الوردة". وهذه أول ترجمة لهذا الكتاب الذي يُعدّ من أهم الكتب في التراث الإنساني، ومن أبرز المنارات المعرفية والفكرية التي تميّز بها عصر النهضة الأوروبية. وما يزال هذا الكتاب مرجعا أساسيا لكل الفلاسفة والمفكرين والروائيين وعلماء الاجتماع والانثروبولوجيا.

أما الكتاب الثاني المعروض في جناح دار "أدب" فهو : "طرق الحرير-تاريخ جديد للعالم" للمؤرخ المرموق بيتر فرانكوبان، أستاذ التاريخ العالمي في جامعة أكسفورد. وقد نقله إلى العربية المصري د. أحمد العدوي. وهذا الكتاب الذي صدر باللغة الإنجليزية سنة2015، يتضمن سردا ملحميا لتاريخ العالم، وللحضارات والثقافات التي تعاقبت عليه من خلال طرق الحرير منذ العصور القديمة وحتى العصر الحديث. وما نحن نستخلصه من هذا الكتاب الرائع هو أن مؤلفه تخلى في تحاليله للتاريخ العالمي عن "المركزية الأوروبية" الطاغية على العديد من المؤلفات. فكما لو أن تاريخ العالم هو تاريخ أوروبا. لذلك كان كتابه كما يقول المترجم "ترياقا مضادا لسموم ومغالطات المركزية الأوربية" إذ أنه أولى أهمية للأدوار الخطيرة والهامة التي لعبتها شعوب الشرق في تاريخ العالم وحضاراته. 

وهناك دور نشر سعودية أخرى تساهم في حركة الترجمة التي من الواضح أن وزارة الثقافة السعودية ترغب في أن تجعل منها ركيزة أساسية لمشروع الانفتاح الكبير الذي تباركه السلطات العليا، وتعمل على انجاحه وتطويره  ضمن استراتيجية "الثورة الهادئة" التي تعيشها المملكة في هذه الفترة الحاسمة من تاريخها. 

وما لاحظته أيضا وأنا أطوف في أروقة المعرض الذي احتلّ مساحة واسعة ليكون شبيها بمعرض فرانكفورت هو انعدام الرقابة على الكتب. وهذا جانب إيجابي أيضا إذ أنه يؤكد مرة أخرى أن مشروع الانفتاح ماض إلى الأمام بحيث لن تتمكن من عرقلته كل أشكال الممنوعات والمحرمات. وقد أقنعتني كل فعاليات معرض الرياض الذي تضمن أيضا حفلات فنية وموسيقية ببطلان تلك الفكرة القديمة التي تقول بأن القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ. 

لذا يمكنني أن أقول بأن الرياض باتت تكتب وتطبع وتقرأ لكي تكون قادرة على احتضان وانجاح مشروع الانفتاح والتحديث الذي أعدته السلطات العليا بهدف تطوير المملكة، وجعلها مواكبة لمقتضيات عصر العولمة والتقنيات الحديثة. ومثل هذا المشروع الهائل، المتعدد التوجّهات والأهداف يكشف لنا أن السلطات العليا في المملكة العربية السعودية اختارت تحقيق التغيّر المنشود من المجتمع، ومن الأجيال الجديدة بالخصوص، من دون افتعال ولا صخب ولا عنف لأنها أدركت -ربما منذ زمن مؤسسها الملك عبد العزيز- أن الثورات الحقيقية والناجعة هي تلك التي تتجنب الفوضى والعنف. وفي هدوء تصلح ما فسد، وتحرك ما ركد وتجمّد لكي يستعيد المجتمع حيويته، ويكتسب القوة التي يحتاجها ما أجل البناء والتحرر من كل ما كان يعبق تقدمه وازدهاره...

ومعنى كل هذا أيضا أن السلطات العليا في المملكة العربية السعودية تعلمت من التاريخ الذي أثبت أن الأنظمة الناجحة هي تلك التي يدرك حكامها أن "الثورات الهادئة" تجنبهم وتجنب مجتمعاتهم الانفجارات والانتفاضات الآتية من الأسفل، والتي تفضي إلى الفوضى، وإلى الدمار والخراب. 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات