: آخر تحديث

همنغواي في باريس

75
71
44
مواضيع ذات صلة

عشق همنغواي باريس، وفُتن بأجوائها، وبمقاهيها، وبمطاعمها. وكان يستهويه التجول في شوارعها خصوصا في الليل. وكان قدومه إليها في مطلع العشرينات من القرن الماضي . حدث ذلك إثر تجربته المريرة في الحرب الكونية الأولى التي استوحى منها موضوع روايته الأولى: "وداعا للسلاح". وكان المشروع الأساسي الذي كان يشغله آنذاك وهو في سن الثانية والعشرين أن يصبح كاتبا مشهورا. ومع خطيبته هادلي ريتشاردسو، استقر همنغواي في البداية في فندق كان يرتاده الأميركيون. ولتأميم معيشته، شرع يكتب مقالات لنشرها في الصحف. وفي بداية عام 1922، أقام في شقة صغيرة بشارع كاردينال لوموان بالدائرة الخامسة. وكان يعشق ساحة كونترايسكارب وحاناتها، ومطاعمها. وفي روايته: "باريس وليمة متنقلة"، يروي تفاصيل حياته في باريس، راسما صورة رائعة عن أوضاعها، وعن أوضاع الفنانين والكتاب والشعراء الذين كانوا يقيمون فيها في ذلك الوقت امثال جرتريد شتاين، وإزرا باوند، وجيمس جويس، وسكوت فيتجيرالد، وبليز سندرار وآخرين.  

وفي البداية، كان همنغواي يحب ارتياد صالون جرتريد شتاين في شارع فلوريس .وكان يزور هذا الصالون مشاهير الفنانين أمثال بيكاسو، وهنري ماتيس،. وكانت جرتريد شتاين تتحلى بشخصيّة قوية، ومن نصائحها الثمينة في مجال فن الكتابة،  استفاد كثيرون. وكان صاحب "وداعا للسلاح" واحدا منهم. وفي "باريس وليمة متنقلة"، هو يصفها على النحو التالي : "كانت السيدة شتاين ضخمة لكنها ليست طويلة. وكانت ممتلئة الجسم مثل زوجة فلاح. ولها عينان جميلتان، ووجه يهودي-ألماني قوي، ويمكن أن يكون على هذه الصورة وجه إمرأة من فريلانو مقاطعة في ايطاليا).وذكرتني هيئتها بامرأة قروية من شمال إيطاليا بملابسها ووجهها الحيوي وشعرها الغزير الأسود الذي تصفّفه بالطريقة نفسها منذ أن كانت في المدرسة. وكانت تتكلم طوال الوقت. وتبدأ الحديث عن الناس وعن الأماكن".

أما أليس توكلاس، صديقة جرترود شتاين، فقد وصفت همنغواي قائلة بأنها كانت" لها مظهر غريب بعينين تشعان باهتمام متّقد".  

وخلال الزيارات المتكررة إلى شارع فلوريس، كان الحديث عن الأدب وعن الكتابة وعن الفن الحديث يستمر ساعات طويلة من دون أن يتسرّبَ الممل إلى نفوس المشاركين فيه. وقد حرصت السيدة جرتريد شتاين على أن تنصح ارنست همنغواي منذ البداية بالإنقطاع التام عن الكتابة للصحافة. وكانت تقول له: "إذا ما أنت واصلت الكتابة للصحافة فإنك لن تتمكن أبدا من أن ترى الأشياء بوضوح. سوف ترى فقط الكلمات، وهذا لن يؤدي إلى أيّ شيء".

قبل همنغواي بنصيحة جرترود شتاين، وكف عن الكتابة في الصحف ليبتكر لنفسه أسلوبا خاصا سوف لن يلبث أن يُشْتَهَر به. وقد وصف الأميركي جيروم شارين هذا الأسلوب قائلا:» لقد بدأ همنغواي يكتب مثلما كان بيكاسو يرسم، وأعني بذلك الإنتباه الموجه للأشكال. وبتلك البساطة ،كان شبيها بلوحة تكعيبية، تلك اللوحة التي بإمكانها أن تخفي الفن الذي هي نتيجته.  

وفي تلك الفترة، فترة الفنان شابا، كان طموح همنغواي "كتابة جملة حقيقية واحدة". لذا كان يحرص على حذف الزخارف والمقدمات والإلتواءات اللفظية، وبها يرمي بعيدا ليبدأ بأول جملة خبرية حقيقية بسيطة ولامعة. وفي إحدى المرات، وصفت جرتريد شتاين جيل همنغواي ب"الجيل الضائع" قائلة له: "جميعكم أنتم الشباب الذين شاركتم في الحرب...إنكم جيل ضائع، لا تحترمون أيّ شيء، وتدمّرون  أنفسكم بالشراب". وعندما أراد همنغواي أن يحتجّ على ذلك، أوقفته جرترود شتاين قائلة : "لا تجادلني يا همنغواي... فذلك ليس نافعا أبدا...أنتم جيل ضائع".  

وكان همنغواي يرتاد أيضا مكتبة "شكسبير اند كومباني" التي كانت تديرها سيلفيا بيتش في شارع الأوديون. وكان يزور هذه المكتبة مشاهير الكتاب أمثال جيمس جويس. ومن تلك المكتبة كان صاحب "العجوز والبحر" يستعير أو يشتري كتبا . وفي وقت وجيز، توطدت العلاقة بينه وبين صاحبتها سيلفيا بيتش. وقد كتب عنها يقول بإنه لم "يعرف شخصا أظهر نحوه لطفا مثلما فعلت هي".  

وفي مقهى"كلوزري دي ليلا"، الذي كان يحب أن يكتب فيه كل يوم تقريبا، التقى ارنست همنغواي بالكاتب الأمريكي فورد مادوكس فورد الذي كان يشرف آنذاك على مجلة "إنجليش ريفيو" الأدبية المرموقة. وبسخرية حادة، تحدث عنه قائلا : "كان يتنفس بصعوبة من خلال شاربين كبيرين مصبوغين، وينتصب عموديا مثل برميل كبير معدّ للتحميل ومغطّى بملابس". وبنفس السخرية الحادة، والقاسية،  يتحدث همنغواي عن ويندام لويس الذي كان قد التقى به في شقة إزرا باوند قائلا: "كان يضع على رأسه قبّعة سوداء مثل شخصيّة من الشخصيّات المسرحية، ويرتدي زيّا مثل زيّ واحد من المشردين . وكان له وجه يذكرني بضفدع، ليس بضفدع كبير، لكن مجرد أيّ ضفدع. وكانت باريس بمثابة بركة كبيرة بالنسبة له". أمّا إزرا باوند فقد كان يحظى بتقدير وإعجاب همنغواي. عنه كتب يقول:» كان إزرا باوند أحد أكثر الأدباء الذين عرفتهم كرما، وأعظمهم نزاهة. لقد ساعد شعراء ورسامين ونحاتين وكتّابا آمن بموهبتهم. وكان على استعداد لمساعدة أيّ إنسان آخر في مأزق سواء كان ذا موهبة، أم لا. كان يحمل هموم الجميع". وعندما التقى همنغواي إزرا باوند أول مرة، وجده منشغلا شديد الإنشغال بوضع تي.آس.إليوت. فقد كان يريد إخراجه من البنك الذي كان يعمل فيه لكي يتفرغ للكتابة. وكان عليه أن يبذل جهودا مُضْنية للتوصل إلى ذلك. وبصفته عضوا في "صندوق الأدب" الذي كان الهدف الأساسي منه إخراج إليوت من البنك، جمع همنغواي مبلغا من المال، إلاّ أنه بدّده في رهان سباق الخيل من دون أن يربح فرنكا واحدا. ومرة ذهب همنغواي برفقة خطيبته هادلي إلى أحد المطاعم. وهناك شاهد جيمس جويس بصحبة عائلته. وقد وصف ذلك قائلا:» كان جويس وزوجته نورا بجانب الحائط. وكان هو يمسك بقائمة الطعام بإحدى يديه،  وفيها يحدق من خلال نظارته السميكة. وكانت نورا إلى جانبه متفتحة الشهيّة، لكنها هشة الصحة. وكان إبنه جيورجيو نحيفا، أنيقا، ناعم الشعر. وكان لابنته لوسيا شعر كثّ مجعّد. ولم تكن آنذاك قد كبرت. وكانوا جميعا يتحدثون بالإيطالية".  

وفي "باريس وليمة متنقلة"، يتحدث همنغواي عن علاقته بسكوت فيتجيرالد الذي كان قد تعرف عليه عام 1925 في إحدى حانات "مونبارناس" الذي كان آنذاك الحي المفضل للفنانين والمبدعين القادمين من جميع أنحاء العالم. وقد كتب في شأنه يقول:» كان سكوت فيتجيرالد رجلا حينذاك، لكنه كان يبدو مثل غلام، وجهه يتراوح بين الوسامة  والملاحة. وكان له شعر أشقر مجعّد، وجبهته عالية، وعيناه لامعتان ودودتان، وفم إيرلندي رقيق، طويل الشفتين ...ولو كان فتاة لغدت فائقة الجمال". وعن موهبة سكوت فيتجيرالد،  كتب همنغواي يقول :"كانت موهبته طبيعية مثل طرز دبّجه الغبار على أجنحة فراشة ولا يعر ف متى يتعرّضُ ذلك الطرز للزوال أو التشويه. وقد أصبح مؤخرا واعيا بجناحيه المعطوبين وتكوينهم، وتعلم كيف يفكر فلم يعد بوسعه الطيران لأن حبّ الطيران قد اختفى ، وصار بإمكانه أن يتذكر فقط عندما لا يتطلب الأمر مجهودا". وكان سكوت فيتجيرالد قد جاء إلى باريس برفقة زوجته زيلدا وابنته الصغيرة. ومنذ البداية تبيّن همنغواي أن صاحب "غاتسبي العظيم" مُدمن على الكحول، وأنه يعاني من أزمات نفسية حادة. كما تبيّن أيضا أن زوجته تميل إلى السكر والعربدة، ولا تكاد تستقرّ على حال.  

وقد عشق همنغواي العديد من المقاهي الشهيرة في باريس مثل "كلوزري دو ليلا" التي كان يكتب فيها، و"ليب"، و"دوماغو" التي شرب فيها "شيري ذات مرة مع جيمس جويس. وعندما عاد إلى باريس مع الجيش الأمريكي في عام 1944 ، كان أول شيء فعله هو "تحرير" مقاهيه المفضلة من بقايا النازيين. ويروي أحدهم قائلا:» رأيت جنديا أمريكيا له قامة هرقل ينزل من سيارة "جيب". حيّا صاحب بار"ليب" السيد كازاس، قال له:" ألا تتذكرني؟ أنا إرنست همنغواي.. وأنا عطشان...وأريد شرابا يشفي غليلي حينا". عندئذ أخذ السيد كازاس قربة نبيذ أحمر ومدها له، إلاّ أن همنغواي رد عليه قائلا:» لا أريد نبيذا أحمر..أريد كونياكا".  


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات