: آخر تحديث
قصة للكاتب التركي يشار كمال 

الحشرات 

68
68
29

غَرَزَ حسين يديه حتى المعصمين في حزمة القمح الرطبة، ثم تركها هناك لحظات. كانت ليلة من ليالي حزيران  حارة وخانقة. وكانت النجوم تبدو ضخمة بين وقت وآخر، والواحدة بعد الأخرى تخترق الظلمة، وتضيعُ في  الفضاء الشاسع... 

اقترب حسين من زوجته...كانت تنام على بطنها، وصدرها مُلتصق بالأرض الرطبة، وأنفاسها مُتَقَطّعَة مثل منفاخ، وعلى بعد خمسين مترا من هناك، وحتى الهضبة المقابلة، يمتدّ حقل رزّ يلوح حالكا، منه تتصاعد رائحة مستنقع ثقيلة دبقة...رائحة أعشاب نتنة، وحرارة...  

كانت الزوجة النائمة تتلوى فوق الأرض...الفم مفتوح...والأنفاس مُتَقَطّعَة...جلس حسين بالقرب منها...دارت الحشرات حول رأسيهما مثل سحاب أسود...وبسبب التعب،  لم تكن الزوجة قادرة على رفْع يدها  لإبعادها... 

كان جسدها مُنتفخا...وكانت الحشرات تعضّها رغم أن وجهها كان مغطّى بثيابها...وظل حسين يضرب بيديه في الهواء، وأحيانا يضرب بطنه، أو فخذيه... 

-حسين...حسين...لم أعد قادرة على طرد الحشرات...وجسدي يؤلمني... 

 قالت، ثم شرعت تحكّ فخذيها وصدرها بعنف وكأنها تريد تمزيق لحمها... 

-اللعنة على هذه الحشرات...ما هذا؟...تعال ندخل البيت... 

-وكأن البيت أفضل من هذا  المكان...إن عدد الحشرات أكثر هناك... 

-أنا أموت...ما هذا؟ 

-سيسرقون القمح إن نحن دخلنا البيت ... 

قال ذلك وهو يضعُ صدره على كتفي زوجته... 

-إذن ماذا نفعل؟  

-ماذا تريدين أن نفعل؟ قال حسين وهو يضرب جبهته ليُطردَ إحدى الحشرات...أه ...لقد وخزتني مثل ابرة... 

-ماذا تقول يا حسين لو نندسّ في التّبن. 

-سنموت من الحر... 

-وإذا بقينا فستأكلنا الحشرات... 

-وماذا نفعل؟ 

وصرخت هي:  

-اللعنة يا حسين... لم أعدْ أحتمل البقاء هكذا حتى الصباح...وجهي منتفخ...قالت ذلك وهي تضرب جسدها... 

-لا بدّ من تجْفيف هذا الحقل... 

فجأة اختفت في التبن، وغَمََرتْ جسدها برودة لذيذة: 

-تعال يا حسن...يا لها من برودة رائعة...تعال واندس أنت أيضا في التبن... 

-إنه حار... 

قال ذلك وهو يقترب منها... 

-والحشرات؟ 

-سترين الآن ...اخرجي من هناك... 

ردت المرأة: 

-لن أدعَ أيّة حشرة تقترب مني... 

ثم غابت في التبن... 

-سترين الآن... 

فجأة بدأ التبن يخزها، ويحرقها... 

-تقول إن هناك رجالا في هذه القرية ؟...لا أعتقد...هل تعتقدون انكم رجال حقا...في يوم مان جاء رجل من بعيد،  وجفّفَ السهل الكبير... 

-لأنه غنيّ  

تحول التبن إلى لهب... وكانت المرأة تحتنق فودت أن تنهض، وتبتعد...إلاّ انها كزّت على أسنانها، وظلت هناك...وكان حسين يروح ويجيء أمامها وهو يهتزّ... 

-تعال يا  حسين... إنه كالثلج...تعال وإلاّ فإن الحشرات ستأكلك قطعة قطعة... 

-أفضّل ان أبقى هنا ... 

-تعال قلت لك...عندما أفكر في رجال هذه القرية... آه... يا لهم من رجل ...هناك طفل واحد لم تصبه حمّى المستنقعات...كل الناس أصيبوا بها...أين رجولتكم؟ تعال إلى جانبي... 

فكر حسين قليلا، ثم اندسّ في التبن...في البداية أحسّ ببرودة...ثم كاد يُغْمََى على المرأة ففتحت فمها...كانت تتنفس بصعوبة كبيرة.. 

-أين رجولتكم؟ لو كنتم رجالا حقا لما أنبت ذلك الرجل الرزّ هنا... 

-ابن عمه يحميه  

-لم لا تذهبون إلى السلطة لتشتكوا امركم لها...لم لا  تقولون إن عائلاتكم تحصدها حمّى  المستنقعات... ولمَ لا تطالبون بناموسيّات؟...هل أنتم رجال حقا؟  

-أنا أموت...لقد احرقني التبن...هل أنت تتحملينه؟ 

قال حسين ذلك، ثم قفز خارج التبن ... 

لم تجبه... 

-إنه الجحيم...وهذه الحشرات اللعينة ...عليّ ان أظل هنا... 

امتلأت أنفاسها بروائح المستنقع، وبروائح التبن الرطب...وكان جسدها يشتعل... 

-اللعنة على رجال القرية...تعال واخرجني من هنا... 

حال خروجها، تمددت على الأرض... 

-الأرض باردة وليّنة... 

وسرعان ما هاجمتها الحشرات هائجة، وراحت تخزها... 

-أي...أي...إنها تعضّ مثل الكلاب الغاضبة... 

وراحت تتلوى فوق الأرض متوجّعة... 

-اللعنة على رجولتكم...لو اتصلتم بالسلطة لكانت لكل واحد منكم ناموسية...لكنكم جبناء دائما...وتخافون ذلك الرجل القادم من بعيد...وهو في حجم ثلاث تفاحات...  

-لسنا جبناء...لكن العمدة خَدَعًَنا لأنه رَشَاه... 

-أنتم جبناء... 

-هناك من يدعم الرجل القادم من بعيد، ويقف وراءه... 

راح حسين يتلوى على الأرض...وجرت المرأة وهي تصرخ: 

-حيثما أذهب تهاجمني هذه الحشرات القذرة ... 

ثم انهارت على الأرض متعبة... 

-فلتمزقيني قطع قطعا... لم أعد أستطيع ان أقاوم ... 

للحظات ظلت ساكنة من دون أن تطارد الحشرات... 

-عائلاتكم تموت كل يوم...وأنتم لا تذهبون إلى السلطة... 

ظل حسين يحكّ فخذيه على الأرض بقوة، ثم اقترب منها، وداعبها فهربت مُتَمَنّعَة... 

-دعيني... قال حسين... 

ردّت هي: 

-هل انت مجنون؟ 

اقترب منها حسين زاحفا...كانت الأرض حارة تحت جسده... استولت عليه رغبة جامحة... 

-أأنت مجنون؟ أنا أريد أن أنام... 

قالت ذلك وهي تنزلق من بين يديه متمنعة... 

غير أن حسين واصل مطاردتها، وأمسك بها، ثم راح يداعبها فهدأت...كان العرق يكسوها...وفوقها تماما كانت سحابة من الحشرات تطنّ هائجة، وتدور حولها... 

كان الهواء ثقيلا...والظلام دامسا...ومن المستنقع كان يرتفع نقيق الضفادع... 

بعدها مدّ حسين يده للمرأة لكي تنهض...وهناك كانا ممددين ... 

ظلت على الأرض مبللة بالعرق.... 

-غدا سأذهب إلى السلطة، وأطلب منها أن تُجَفّفَ حقل الرز...قال حسين... 
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات