ليس الانهيار في لبنان مجرد حدث عابر في أخبار المنطقة، بل هو حالة إنسانية فريدة، قصة وطن يستحوذ على القلب والوجدان، يمزج الألم بالأمل في معادلة وجودية معقدة. لم تعد القضية اللبنانية شأنًا سياسيًا أو اقتصاديًا فحسب، بل تحولت إلى لوحة إنسانية تختصر دروسًا في الصمود والانهيار، في الفقدان وحلم البقاء.
الانهيار الشامل: من ذاكرة الدولة إلى وجع المواطن
شهد لبنان في السنوات الأخيرة انهيارًا شاملًا لم يترك جانبًا من حياتهم إلا ونال منه. اقتصاد كان يومًا رمزًا للازدهار في المنطقة، يشهد الآن انهيارًا هو الأسوأ في تاريخه الحديث، حيث تحطمت قيمة الليرة بأكثر من 90 بالمئة، بينما قفز معدل التضخم ليتجاوز حاجز الـ 200 بالمئة، وفق تقارير أممية حديثة.
ولكن الأعمق من الأرقام هو الانهيار في نسيج الحياة اليومية. الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وصحة تعاني انهيارًا غير مسبوق. تحولت ساعات التقنين إلى جزء من روتين العيش، فيما تحولت المستشفيات من دور للشفاء إلى ساحات مواجهة مع نقص حاد في الأدوية والمستلزمات.
هذا الواقع المأساوي ولّد كارثة اجتماعية تهدد المستقبل، مع أكثر من 80 بالمئة من السكان تحت خط الفقر، وثلث اللبنانيين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بحسب تقارير البنك الدولي. النتيجة الطبيعية كانت هجرة واسعة للنخب والشباب، حيث تشير إحصاءات إلى هجرة أكثر من 100 ألف شاب خلال السنتين الماضيتين فقط، في نزيف بشري يهدد مستقبل البلاد.
الطائفية السياسية: البنية التي تأكل نفسها
في قلب الأزمة اللبنانية، يكمن النظام الطائفي الذي تحول من أداة للتوازن الهش إلى آلة للتعطيل والتمزيق. أصبحت الطائفية السياسية نظامًا يكرس الولاءات الضيقة على حساب المصلحة الوطنية الجامعة، ويحوّل مؤسسات الدولة إلى غنائم لزعامات مغلقة.
الفساد المستشري في مفاصل الدولة صار ظاهرة بنيوية، تحتل لبنان بسببها مراكز متأخرة في مؤشرات الشفافية العالمية. المؤسسات التي يفترض أن تخدم المواطن تحولت إلى أدوات للسيطرة والهيمنة، فيما أصبحت الطبقة السياسية منفصلة تمامًا عن هموم الناس ومعاناتهم اليومية.
لبنان المقاوم: إبداع الحياة من رحم الموت
وبالرغم من كل هذا الظلام، هناك لبنان آخر لا يظهر غالبًا في عناوين الأخبار الرئيسية. إنه لبنان المقاومة اليومية والصامتة. مبادرات المجتمع المدني تملأ فراغ الدولة المنهار في مجالات الصحة والتعليم والخدمات. إنه إبداع الحياة من رحم الموت.
هذا الوجه الحقيقي للبنان يظهر في نضال أطباء يعالجون بدون أدوية كافية، ومعلمين يواصلون التدريس بدون رواتب منتظمة، وأصحاب مشاريع صغيرة يبتكرون سبل البقاء بالرغم من العواصف. هذه المقاومة اليومية هي التي تثبت أن الكرامة الإنسانية أقوى من كل ظروف الانهيار. اللبنانيون، كأشجار الأرز في عواصف الشتاء، قد يترنحون لكنهم لا ينكسرون.
الأبعاد الإقليمية والدولية: لعبة الكبار على حساب الصغار
لا يمكن فهم تعقيدات الأزمة اللبنانية بمعزل عن الصراعات الإقليمية والدولية المحيطة. لبنان، وبسبب وضعه الجيوسياسي الفريد، أصبح ساحة لصراعات نفوذ كبيرة، وتحول القرار السياسي فيه إلى رهينة لتوازنات معقدة تتجاوز حدوده.
المساعدات الدولية، في هذا السياق، غالبًا ما تأتي كمسكنات مؤقتة لا تلامس جذور المرض. الدعم كثيرًا ما يكون متأخرًا وغير كافٍ، وأحيانًا يتحول إلى جزء من المشكلة ذاته، حيث يعزز اعتماد لبنان المتعثر على المساعدات الخارجية بدلًا من بناء قدراته الذاتية وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
نحو مستقبل مختلف: مقترحات للخروج من النفق
يقف لبنان اليوم على مفترق طرق تاريخي، والخروج من نفق أزماته المتشابكة يتطلب رؤية شاملة وجريئة، مبنية على أسس واضحة:
الإصلاح السياسي الجذري: عبر تبني قانون انتخابي جديد يعزز مفهوم المواطنة الفردية ويحد من هيمنة النظام الطائفي على الحياة السياسية.
محاربة الفساد بالمؤسسات: عبر تعزيز استقلالية القضاء وإقرار قوانين الشفافية والنزاهة ومحاسبة الفاسدين بغض النظر عن مناصبهم.
إعادة بناء الاقتصاد على أسس جديدة: الانتقال من اقتصاد الريع والاستهلاك إلى اقتصاد إنتاجي مستدام، يدعم الزراعة والصناعة والسياحة والابتكار.
تمكين الطاقات الشبابية: استثمار طاقات الشباب المبدع الذي يثبت يوميًا قدرته على العطاء بالرغم من كل الظروف، وتحويل هجرة الأدمغة إلى جذب للكفاءات.
الخاتمة: البقاء ليس خيارًا بل قدرة
لبنان بين الفقدان وحلم البقاء هو معادلة إنسانية قبل أن تكون سياسية أو اقتصادية. الفقدان ليس قدرًا محتومًا، والبقاء ليس حلمًا مستحيلًا. يحتاج لبنان، في هذه اللحظة المصيرية، إلى إرادة داخلية ترفض الاستسلام، وإلى ضمير دولي يتحمل مسؤوليته الأخلاقية.
ما تبقى من لبنان، في النهاية، هو إرادة شعب يرفض الموت، وذاكرة تاريخ ترفض النسيان، وثقافة تنوع ترفض الاندثار. لبنان ليس مجرد أرض، بل هو فكرة الحرية والتنوع التي لا تموت.
فماذا تبقى من لبنان بعد كل هذا؟ الإجابة: يبقى الإنسان، يبقى الأمل، يبقى الجبل، يبقى البحر، يبقى الحلم بوطن يستحق البقاء. فلبنان، بالرغم من كل الجراح، لا يزال ينبض بالحياة، لأنه ببساطة: لبنان.
لبنان أكبر من أن يموت، وأقوى من أن يغيب. والمهمة اليوم هي تحويل البقاء من مجرد صمود إلى إنجاز، ومن مجرد وجود إلى حياة كريمة.


