تُعتبر سوريا منذ اندلاع الصراع فيها عام 2011 ساحة لتنافس القوى الكبرى، حيث قدّمت روسيا وإيران دعماً قوياً لنظام الأسد، بينما ساندت الولايات المتحدة وحلفاؤها، بما في ذلك تركيا، الجماعات المناهضة له. ومع سقوط النظام، تغيّرت موازين القوى وظهرت ديناميكيات جديدة ترسم ملامح مستقبل سوريا اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، حيث دخلت سوريا مرحلة جديدة تتسم بتعقيدات جيوسياسية وتحديات داخلية هائلة. لم يكن هذا التغيير نهاية الصراع، بل بداية لمشهد جديد تتنافس فيه القوى الإقليمية والدولية على تشكيل مستقبل البلاد. ويتطلب فهم هذا المشهد تحليلاً معمقاً لأدوار كلّ من الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإسرائيل والدول العربية وتأثير مصالحها المتضاربة والمتقاطعة على مسار الأحداث في سوريا.
الدور الأميركي: استراتيجية ما بعد الأسد
لطالما كانت الولايات المتحدة لاعباً رئيسياً في الملف السوري وإن كان دورها قد شهد تحولات. فبعد سقوط نظام الأسد، تزايد الاهتمام الأميركي بإعادة تشكيل المشهد السوري بما يتماشى مع مصالحها، وتجلى هذا التوجّه بوضوح في زيارة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع إلى البيت الأبيض في تشرين الثاني (نوفمبر) 2025. هذه الزيارة تشير إلى تحوّل سوريا من حليف لروسيا إلى شريك محتمل للولايات المتحدة، مما يمثّل ضربة كبيرة للنفوذ الروسي في المنطقة.
تهدف الاستراتيجية الأميركية إلى تحقيق عدّة أهداف:
أولاً: منع عودة ظهور التنظيمات الإرهابية مثل داعش، وهو ما يفسّر استمرار وجود القوات الأميركية في سوريا.
ثانياً: إضعاف المحور الإيراني في المنطقة، والذي كان يعتمد بشكل كبير على سوريا كجسر لوجستي.
ثالثاً: تعزيز الاستقرار الإقليمي من خلال دعم حكومة سورية جديدة ومنفتحة على العالم، قادرة على بناء علاقات متوازنة مع جيرانها والقوى الدولية، وتشير المصادر إلى أنّ الولايات المتحدة بقيادة الرئيس دونالد ترامب.
التعاون مع تركيا وتحديات النفوذ
تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز التعاون مع تركيا في سوريا، خاصة بالنسبة إلى المصالح المشتركة المتعلقة بإضعاف النفوذ الروسي والإيراني. وتشير دراسة حديثة إلى أنّ إقامة تعاون استراتيجي أميركي مع تركيا في سوريا وليبيا قد يكون بمثابة سياسة تحويلية قادرة على إضعاف المحور الأمني الإيراني والروسي وإعادة تنظيم توازن القوى الإقليمي. ومع ذلك، تواجه هذه العلاقة تحديات خاصة فيما يتعلق بالدور التركي في شمال سوريا ودعمها لفصائل معينة، إضافة إلى موقف تركيا المقاوم للضغوط الغربية لفرض عقوبات على روسيا في سياقات أخرى.
الدور الروسي: محاولة للحفاظ على النفوذ
لطالما كانت روسيا الداعم الأبرز لنظام الأسد، وقد عزّزت وجودها العسكري في سوريا منذ أيلول (سبتمبر) 2015. وبعد سقوط النظام، وجدت روسيا نفسها أمام تحدٍّ كبير للحفاظ على مصالحها ونفوذها في سوريا. وتسعى روسيا الآن إلى بناء علاقات مع الحكومة السورية الجديدة بهدف تعزيز مصالحها العسكرية والاقتصادية والحفاظ على قواعدها الاستراتيجية في البلاد.
تتضمن استراتيجية روسيا عدّة محاور:
أولاً: تقديم الدعم الاقتصادي لسوريا لتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما ورد في بيان الكرملين بعد مكالمة بين المسؤولين الروس والسوريين.
ثانياً: محاولة إيجاد شريك في دمشق لمواجهة تأثير تركيا وإيران، اللتين تعتبرهما روسيا منافستين في المنطقة.
ثالثاً: الحفاظ على دورها كقوة عظمى في الشرق الأوسط وتأكيد قدرتها على التأثير في الأزمات الإقليمية.
ومع ذلك، تشير المصادر إلى أنّ سقوط الأسد يمثّل انتكاسة كبيرة لروسيا التي خسرت موطئ قدم استراتيجي في الشرق الأوسط، خاصة مع انفتاح سوريا على الوجود العسكري الأميركي المحتمل وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
العلاقات الروسية التركية في سوريا
العلاقات بين روسيا وتركيا في سوريا معقدة ومتناقضة، فبالرغم من التنافس على النفوذ، أظهر البلدان قدرة على التعاون في بعض الملفات مثل مسار أستانا لإيجاد حل سياسي للأزمة. ومع ذلك، فإنّ التحول السوري نحو الولايات المتحدة قد يؤدي إلى توترات جديدة بين تركيا وروسيا، خاصة أنّ تركيا كانت تدعم المعارضة السورية وتستفيد الآن من الشراكة المتجددة مع الولايات المتحدة لتقليل الاعتماد على روسيا.
الدور التركي: طموحات إقليمية متزايدة
لتركيا مصلحة كبيرة في مستقبل سوريا نظراً لحدودها الطويلة مع البلاد وتأثير الصراع السوري على أمنها القومي. إذ كانت تركيا من أبرز الداعمين للمعارضة السورية، وتسعى الآن لتأكيد نفوذها في المرحلة الانتقالية. وتعتبر تركيا نفسها لاعباً رئيسياً على الأرض ولاعباً سياسياً في الملف السوري، وتسعى إلى تعزيز مصالحها الأمنية، خاصة بالنسبة إلى الخطر الكردي الذي تعتبره تهديداً.
⁃ تتضمن الأهداف التركية:
أولاً: إقامة منطقة آمنة على حدودها الجنوبية لمنع أي تهديدات أمنية.
ثانياً: دعم الفصائل الموالية لها في شمال سوريا.
ثالثاً: تعزيز مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة في الشرق الأوسط.
ومع ذلك كله، تواجه تركيا تحديات في علاقتها مع القوى الأخرى، بما في ذلك روسيا والولايات المتحدة، حيث تتصارع المصالح وتتضارب الاستراتيجيات.
الدور الإسرائيلي: تأمين الحدود والمصالح الأمنية
بعد سقوط نظام الأسد، دخلت إسرائيل في مرحلة جديدة من التعامل مع التطورات في سوريا. ولطالما كانت إسرائيل تراقب الوضع في سوريا عن كثب، وكانت سياستها الرئيسية هي منع ترسيخ الوجود الإيراني ووصول الأسلحة المتطورة إلى حزب الله عبر الأراضي السورية. ومع سقوط النظام، اتخذت إسرائيل إجراءات سريعة لتأمين مصالحها، شملت هذه الإجراءات الغزو الإسرائيلي لمناطق في القنيطرة وجبل الشيخ بعد ساعات من سقوط الأسد بذريعة إنشاء منطقة عازلة بين الأراضي السورية وهضبة الجولان السوري المحتلة، حيث أكّد نتنياهو أنّ الجيش الإسرائيلي سيبقى في سوريا حتى التوصل إلى ترتيب آخر يضمن أمن إسرائيل. كما بدأت إسرائيل مفاوضات مع القيادة السورية الجديدة مطالبة بنزع السلاح من جنوب سوريا والبقاء في قمة جبل الشيخ.
⁃ تسعى إسرائيل إلى تحقيق عدّة أهداف:
أولاً: منع أي قوة معادية من التمركز على حدودها.
ثانياً: الحفاظ على تفوقها العسكري والاستخباراتي في المنطقة.
ثالثاً: استغلال الوضع الجديد لتعزيز علاقاتها مع القوى الإقليمية الأخرى، ودفع القيادة السورية الجديدة للانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم وتطبيع العلاقات.
الدور العربي: إعادة تموضع ومساهمة في الاستقرار
شهدت الدول العربية، وخاصة المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات والأردن، تحولات في مواقفها تجاه سوريا بعد سقوط نظام الأسد. وكانت هذه الدول جزءاً من الجهود الإقليمية والدولية لدعم الانتقال السياسي في سوريا ورفع العقوبات عنها. وتسعى الدول العربية إلى تحقيق الاستقرار في سوريا لما لذلك من تأثير مباشر على أمنها الإقليمي.
ساهمت عدة دول عربية مثل المملكة العربية السعودية والأردن في رفع العقوبات عن سوريا وإعادة تموضعها الإقليمي والدولي. وتتطلع هذه الدول إلى رؤية سوريا مستقرة ومزدهرة بعيداً عن الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية. ويبرز دور الأردن في هذا المسار، إضافة إلى مساهمة دول الخليج في جهود إعادة الإعمار والتنمية في سوريا.
تحديات وآفاق المستقبل
إنّ مستقبل سوريا بعد سقوط نظام الأسد محفوف بالتحديات والتعقيدات. فإلى جانب التنافس الدولي والإقليمي، تواجه سوريا تحديات داخلية هائلة:
⁃ العدالة الانتقالية: يشير غياب العدالة الانتقالية إلى انتشار العنف الانتقامي في بعض المناطق، مما يعيق عملية المصالحة الوطنية وبناء دولة القانون.
⁃ إعادة الإعمار: تُقدّر تكلفة إعادة إعمار سوريا بمئات المليارات من الدولارات، وهي مهمة تتطلب جهوداً دولية وإقليمية منسقة.
⁃ الاقتصاد: يعاني الاقتصاد السوري من إرث الانهيار، وتواجه الحكومة الجديدة تحديات في تحرير السوق واضطراب الصرف وتراجع الدعم.
⁃ التنوع المجتمعي: المجتمع السوري متنوع، ويتطلب بناء دولة مستقرة الاعتراف بهذا التنوع وضمان حقوق جميع مكونات المجتمع.
يتشابك مستقبل سوريا مع قدرة هذه القوى على التوصل إلى تفاهمات مشتركة، أو على الأقل إدارة خلافاتها بما يمنع المزيد من التصعيد. إنّ بناء سوريا جديدة يتطلب رؤية واضحة من جميع الأطراف، تضع مصالح الشعب السوري في المقام الأول، وتسعى إلى تحقيق الاستقرار والازدهار.
تأثير التنافس على الشعب السوري
في خضم هذا التنافس المعقد، يظل الشعب السوري هو المتضرر الأكبر. لقد تسببت الحرب في نزوح وتهجير نحو 14 مليون شخص، وولادة جيل جديد من السوريين في ظل واقع الحرب وعدم الاستقرار. إنّ أي حل مستقبلي لسوريا يجب أن يركز على احتياجات هذا الشعب ومعاناته.
إنّ بناء دولة سورية مستقرة وديمقراطية يتطلب تضافر الجهود الدولية والإقليمية، وتجاوز المصالح الضيقة، والتركيز على دعم عملية سياسية شاملة تقود إلى مصالحة وطنية حقيقية وإعادة إعمار مستدام.
خاتمة
إنَّ المشهد السوري بعد سقوط نظام الأسد هو مشهد معقد ومتغير باستمرار، تتداخل فيه المصالح الدولية والإقليمية مع التحديات الداخلية. ويمثل الانتقال السياسي فرصة لبناء سوريا جديدة، ولكنها فرصة محفوفة بالمخاطر. وسيعتمد نجاح هذه المرحلة على قدرة اللاعبين الرئيسيين على إدارة خلافاتهم والتعاون نحو هدف مشترك يتمثل في تحقيق السلام والاستقرار والازدهار للشعب السوري. إنّ التوازن الدقيق بين المصالح المتضاربة والحاجة الملحّة للتعافي سيبقى المحرّك الرئيسي للأحداث في سوريا خلال السنوات القادمة.


