تفاجأت بالعنوان؟ عزيزي القارئ ركز على اسم الكاتب "علي صالح الضريبي"، وليس – مثلاً - "علي صالح ملا زاده"!
عنوان مقالي هو في الأساس عنوان مقال لعالم السياسة البروفيسور الأميركي كينيث والتز (8 حزيران / يونيو 1924 – 12 أيار / مايو 2013)، حمل نفس الاسم حرفياً ?Why Iran Should Get The Bomb، والذي نشره في عام 2012 في مجلة Foreign Affairs الأميركية المرموقة. ومقال والتز هذا في الأصل اشتق من الفكرة العامة في كتابه المنشور في عام 1981، بعنوان The Spread of Nuclear Weapons: More May Be Better (انتشار الأسلحة النووية: الكثير منها قد يعني الأفضل).
لا زلت استذكر واليوم قبل أي يومٍ مضى.. تلك المحاضرة في أواخر عام 2012، التي حضرتها في المركز الأوروبي للبحوث والدراسات الدولية والاستراتيجية (CERIS)، الذي أرأسه اليوم إقليمياً في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، ويعد أحد أهم المراكز الفكرية والأكاديمية في أوروبا والعالم... عندما كان الضيف المتحدث الرئيسي كينيث والتز (الذي بالمناسبة كان أستاذ الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في جامعة شيكاغو)، وكانت المحاضرة تدور حول مقاله المذكور، حيث لخص نظرته الجيوسياسية المعتمدة على نظريته "السياسة الواقعية الجديدة أو neorealism، من أن حصول إيران على القنبلة النووية سيعني بالضرورة موازنة خطر النووي الإسرائيلي وردع بلطجة إسرائيل في المنطقة ودرء الفوضى المترتبة على تصدر إسرائيل لقوى المنطقة نووياً.
وأنا أستمع له يومها كانت الأسئلة تغلي بداخلي، من مثل.. لماذا تجاهل قوة أكبر وأعقل من إيران، وهي السعودية؟ وحقها في امتلاك النووي؟ وهل فعلاً أنَّ موازنة إيران لإسرائيل نووياً سيبعد عن المنطقة شبح الحروب والفوضى؟ تختلف أم تتفق مع والتز، فهو ممن بنى نظرته الجيوسياسية هذه على سياسة واقعية تُدعى Realpolitik أي السياسة الواقعية العملية التي تتجرد من العواطف وتنظر للوسائل - مهما وكيفما كانت - التي تحقق الغايات. يُذكر أنَّ كينيث والتز نشر مقالته المذكورة قبيل وفاته بأشهر قليلة (توفي عام 2013)، وكان المقال بمثابة "وصية" إلى تلميذه الرئيس الأميركي حينها أوباما، الذي بدا بأنه سعى لتحقيقها، ففي فترة رئاسته، وُلِدت وازدهرت وتقدمت المفاوضات النووية الإيرانية مع مجموعة 5+1 (الدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس أمن الأمم المتحدة + ألمانيا) لصالح إيران، فيما عرف بـ"صفقة إيران"!
طبعاً أختلف شخصياً تماماً مع طرح والتز، ولدي أفضلية كوني أولاً، ابن المنطقة وعرفت وشهدت ديناميكية الصراعات فيها وطبيعتها عن قرب، بخلاف والتز الذي اكتفى بالتنظير من على بعد آلاف الأميال دون العيش في منطقة الشرق الأوسط والفهم عن قرب لإرهاصات وتداعيات الصراعات وأجندة القوى فيها. فمثلاً، طرح والتز تجاهل الدوافع الأيديولوجية للنظام الإيراني، كما غفل عن الطبيعة غير المتوقعة لانتشار الأسلحة النووية.
فعلى عكس نظرية والتز، فإن إيران نووية لن تحقق التوازن، بل ستُشجع وكلاءها الإقليميين، وتُصعّد الصراعات، وتدفع المنطقة إلى سباق تسلح خطير. ومن هنا ففكرة والتز القائلة إنَّ "المزيد من القنابل تعني المزيد من السلام" هي فكرة ساذجة إلى حد الخطورة، خصوصاً في منطقة تتغلغل فيها الفصائل غير الحكومية (الميليشيات) والدوافع الأيديولوجية التي تُقوض مبدأ الردع القائم على العقلانية، كما كان الحال في الحرب الباردة. لقد أدى انغماس والتز في التنظير الأكاديمي، وهو بعيد كل البعد عن واقع الشرق الأوسط، إلى تغافله عن حقيقة أساسية: إنَّ السلاح النووي في يد نظام توسعي مثل إيران وحتى إسرائيل التي تملك بالفعل ترسانة نووية، لا يجلب الاستقرار، بل يقود إلى الفوضى، ولا أدل من الفوضى التي تشهدها المنطقة اليوم من الحرب الإسرائيلية الإيرانية، التي قصت شريطها إسرائيل، وتلاها الهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة من جانب إيران، ورد إسرائيل وتدخل أميركا بجانبها مؤخراً بعمليات عسكرية على منشآت نووية. كل هذه الفوضى أوصلت المنطقة إلى حافة الانفجار، ولم تزل دول فيها معرضة لخطر وجودي، وأعني تحديداً دول الخليج العربي.. هذه الست دول.. الحدائق وسط حرائق!
ناهيك عن أن امتلاك إيران للسلاح النووي سيعني بالضرورة حصول سباق تسلح، فدول مثل السعودية وتركيا ستسعى حينها لامتلاك أسلحة نووية خاصة بها. كما سيؤدي ذلك إلى شلل المسار الدبلوماسي - المشلول أساساً! - ففكرة الردع (بمعنى وجود إيران كقوة نووية رادعة لإسرائيل) لا تنجح إلا في ظل عقلانية الأطراف، في حين أن أيديولوجيا الثورة الإيرانية تُفضل "المقاومة" على الاستقرار، وأيديولوجيا إسرائيل تقوم على الاحتلال والتوسع تحت مثل شعار "إسرائيل الكبرى.. من النهر إلى البحر".
قبل الختام، الحل لاستقرار الشرق الأوسط لا يكمن في انتشار القنابل النووية، سواء تلك الإيرانية المرتقبة أو الإسرائيلية الموجودة. فإقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية، رغم كونه هدفاً مثالي النزعة وبعيد المدى، إلا أنه يجب أن يبقى طموحاً إقليمياً مستمراً. أما على المدى القصير، فأنجع حل منطقي وواقعي وممكن التنفيذ ويفضي إلى بناء الثقة والاعتراف المتبادل هو في قبول مبدأ التعايش دون الخضوع للهيمنة الأيديولوجية، وذلك ضمن ترتيب يُعرف بـ"modus vivendi"، وهو مبدأ في العلاقات الدولية قائم على التعايش المؤقت كأمر واقع بين أطراف متنازعة (إيران – إسرائيل) دون اتفاق نهائي، وقطعاً لن يتحقق ذلك الاتفاق النهائي دون أن تُحل أولاً القضية الفلسطينية، القضية المركزية في الشرق الأوسط وأساس أو "قميص عثمان" صراعاته، وذلك عبر قبول إسرائيل لمبادرة السلام العربية 2002.
وأترك القارئ مع مقولة نيكولا مكيافيللي الخالدة: "الحروب تبدأ حينما تشاء، لكنها لا تنتهي حينما ترغب".
وأزيد على قول مكيافيللي أن الحروب لا تنتهي حينما ترغب، وأيضاً.. أينما ترغب، فهي لا تنحصر بعدها في الغالب بين طرفين، بل تتعداهما جيوسياسياً، ليتسع ضررها البشري والمادي.