: آخر تحديث

الرياض لا تطلب المقود… بل تستحقه

7
6
6

جامعة الدول العربية، ذلك الاسم الذي كنا نردده في المدارس كأننا نلفظ دعاءً لأمةٍ نائمة، مؤسسة عربية بحجم التاريخ، لكنها تسير منذ عقود على عكاز من المجاملات والبروتوكولات، لم تعد تُرى إلا في نشرات الأخبار الباهتة، ولم نعد ننتظر منها شيئاً… لأنها لا تفعل شيئاً.
لكن الحقيقة العارية تقول: الجامعة لا تحتضر… لقد ماتت إكلينيكياً، وما نراه ليس سوى جهاز تنفس اصطناعي يديره من لا يريد الاعتراف بالفشل.

آن الأوان لنزع ذلك الجهاز… أو منحها قلباً جديداً ينبض، والسعودية فقط تمتلك القدرة على إجراء هذه العملية الكبرى، ليس لأنها دولة نفط، بل لأنها دولة موقف.

حين تقود السعودية الجامعة العربية، لا يكون ذلك من باب الترف السياسي، بل من باب الضرورة الجيوسياسية، من باب الإنقاذ لا الاستحواذ، من باب إعادة صياغة البيت العربي، لا إعادة فرض الذات، في زمن تتآكل فيه الأقاليم، وتتمزق فيه القضايا، وتتحول المؤسسات إلى متاحف دبلوماسية، لا يكفي أن نحمل جثة الجامعة على الأكتاف ونبكيها… يجب أن نختار: إما دفنها، أو إحياؤها.

السعودية تمتلك كل ما حُرم منه منصب الأمين العام منذ عقود: الإرادة السياسية، القوة المالية، الحضور الدولي، والمكانة الإقليمية التي تُجبر حتى الخصوم على الإنصات.

أما التوزيع الجغرافي المناطقي للمناصب، ذلك الذي جعل من الجامعة أسيرة توازن هش بين (شرق) و(غرب) و(وسط) العالم العربي، فقد أثبت أنه مجرد قيد على الكفاءة، وسياج شائك يمنع التغيير. لقد حان الوقت لكسر هذا (الاحتكار التاريخي) الذي لم يُنتج سوى أمناء عامين بلهجة ناعمة ونتائج ناعمة وقرارات أنعم من الهواء.

ليست المشكلة في المقر، بل في المعنى، الجامعة تحولت إلى أرشيف للصور الجماعية، ومرآة مشروخة تعكس تراجع العرب لا وحدتهم. كلما صعد دخان معركة في اليمن، أو تهديد في فلسطين، أو فتنة في السودان، تغلق الجامعة نافذتها، وتكتفي ببيان فضفاض يُكتب بلغة خشبية تصلح للتقاعد أكثر من التحرك.

ما نحتاجه ليس إعادة تجميل، بل إعادة تصنيع للروح. والسعودية، بحكم الواقع لا العاطفة، تمثل الدولة الوحيدة القادرة على هذا الدور دون أن تغرق في تفاصيل صغيرة أو تحسب الخطوات وفق ردود الفعل.

إنها الدولة التي تحولت من النفط إلى التنويع، من المجاملات إلى المشاريع، من الحذر إلى التأثير. رؤية 2030 ليست رؤية اقتصادية فقط، بل رؤية لقيادة مختلفة… فهل يُعقل أن تكون السعودية قائدة لمجموعة العشرين، وعاجزة عن قيادة مؤسسة عربية بحجم الجامعة؟

لا نريد مقراً جديداً فحسب، بل عقلاً جديداً، مقر في الرياض لا يعني تغيير الطوب، بل تغيير اللغة، الخطاب، التوقيت، والجرأة. أن نعيد تعريف الجامعة بوصفها عقل العرب المشترك، لا عقل التسويات، ولا وسادة الاجتماعات.

الجامعة اليوم لا تملك حتى أن تكون ظلاً باهتاً لمجلس التعاون الخليجي، ولا روحاً رشيقة كالتي رأيناها في المبادرات السعودية في السودان، أو في تحركاتها العربية المصيرية في اليمن وسوريا ولبنان. فهل نقبل أن تبقى مجرد ديكور؟ أم نملك الشجاعة لنضع يد المملكة على مقودها؟

لن تتغير الجامعة إلا إذا تغيرت قواعدها، ولن تتغير القواعد إلا إذا وقف أحدهم وقال: كفى….!

كفى تدويراً للضعف…
كفى توزيعاً طائفياً مقنعًا للمناصب…
كفى تمثيلاً صوتياً للأزمات دون فعل عضليّ حقيقي.

لماذا السعودية؟
لأنها الدولة الوحيدة التي تملك علاقات قوية مع جميع الأطراف، دون أن تكون رهينة لأي طرف. لأنها اليوم تصيغ عقود الطاقة كما تصيغ معادلات السلام. لأنها الوحيدة القادرة على جمع الفرقاء دون أن تصبح هي الطرف المتنازع عليه. لأنها تعرف جيداً أن القيادة ليست زعامة، بل مسؤولية. وأن الوطن العربي لا يُقاد بالحناجر، بل بالقرارات الذكية، والحضور النوعي، والخروج من عباءة الشكليات.

هل هذا انقلاب على التراضي العربي؟ نعم، وبكل فخر، فإذا لم ينقلب العرب على رتابتهم، سينقلب عليهم التاريخ.

إن وجود الجامعة في حالتها الراهنة أشبه بترك مريض في غيبوبة لأن لا أحد يريد أن يتحمّل قرار فصل الأجهزة… السعودية فقط تملك الجرأة لفعل ذلك، لا بقتل الجامعة، بل بإحيائها بصدمة كهربائية تبدأ من الرياض.

لا نطلب المستحيل، بل الممكن الذي تأخر كثيراً، لا نحتاج بعد الآن إلى إجماع عربي يُستخدم كحجة للتعطيل، بل نحتاج إلى أغلبية واعية تقول إن من لا يستطيع الإصلاح… يجب أن يتنحى.

قيادة السعودية للجامعة ليست خياراً بين عدة بدائل، بل الخيار الوحيد المتبقي قبل أن نعلن وفاة المشروع العربي الكبير.

فهل نملك الشجاعة؟

أم سنبقى نُراسل ميتاً، وننتظر منه الرد؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.