: آخر تحديث

وداعًا لاحتكار القاهرة... الجامعة تستحق فكرًا جديدًا

3
3
2

ألزمت نفسي إلزامًا لا فصال فيه بأن أُنحي مصريتي جانبًا عندما أكتب عن شأن يتعلق بمصر ويتداخل مع دول أخرى. انحيازي الأول والأخير يكون للمعرفة، وللحقائق، وللمنطقية في الطرح، حتى يكون ما أكتبه موضوعيًا ويستحق أن يُقرأ.

خلال الأيام الماضية، استوقفني موضوع يحتل صدارة الاهتمام العربي، خصوصًا على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتعلق بمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية: من هو الأجدر بتوليه بعد الأمين العام الحالي أحمد أبو الغيط، والذي تنتهي مدته بعد عدة شهور؟

دهشت بشدة من حالة "اليقين الاستحقاقي" التي عبّرت عنها العديد من الأقلام المحسوبة على النظام المصري، والتي وصلت إلى حد المفاضلة بين ثلاثة أسماء مصرية: رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، ووزير الخارجية السابق سامح شكري، والحالي بدر عبد العاطي. وفي النهاية، هناك شبه استقرار على طرح مدبولي، الذي سيحل محله كامل الوزير في منصب رئيس الوزراء. ويبدو أنَّ النظام لا يريد التخلص من رئيس وزرائه الحالي على طريقة "الإقالة"، ولكن يُراد إخراج ذلك في صورة ترقية بتوليه منصب الأمين العام.

هذا النقاش يُشعرنا وكأن الجامعة قد تحوّلت رسميًا في نظر القاهرة إلى دار متقاعدين، أو شركة حكومية مصرية يُحال إليها المرضي عنهم لتسلية أنفسهم وممارسة هواية "الإدارة". وكأن الدول الأعضاء، التي تراقب هذا "الموت السريري" منذ عقود، مجرد ديكور على خشبة المسرح المصري.

ذهبت إلى ميثاق الجامعة ولوائحها، فلم أجد فيها ما يدعم هذا "الحق المزعوم" الذي يستند فقط إلى العرف غير المكتوب منذ تأسيس الجامعة عام 1945، حين شغل عبد الرحمن عزام المصري المنصب، ثم استمر الاحتكار المصري، باستثناء فترة ما بعد معاهدة السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل في 26 آذار (مارس) 1979، حيث قررت الدول الأعضاء في قمة بغداد تعليق عضوية مصر ونقل مقر الجامعة إلى تونس، فتولّى المنصب التونسي الشاذلي القليبي. لكن ما إن عادت الجامعة إلى القاهرة، حتى عاد الاحتكار لمصر.

هنا تبرز أسئلة مشروعة: لماذا لا يكون الأمين العام من إحدى الدول الخليجية؟ من السعودية مثلًا؟ أو من الإمارات؟ أو من المغرب أو دول أخرى؟ لماذا لا يُفتح هذا المنصب الحساس أمام جميع الكفاءات العربية؟ هل لمجرد أن المقر في القاهرة؟ وهل يظل "العرف" أعلى من المصلحة العامة عربيًا؟ أريد منهم أن يذكروا لنا نموذجًا عالميًا ناجحًا يُدار على هذا النحو الغرائبي.

وللتدليل على فشل النموذج الحالي، يمكن التوقف عند القمة العربية الرابعة والثلاثين التي انعقدت في بغداد يوم 17 أيار (مايو) 2025. خمسة زعماء فقط حضروا من أصل 22 دولة: الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أمير قطر الشيخ تميم، الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، ورئيس مجلس القيادة اليمني رشاد العليمي، إلى جانب المضيفين العراقيين.

حضور ضعيف بهذا الشكل يعكس احتقارًا للمؤسسة وتفككًا في العمل الجماعي العربي. وإذا طالعنا تعليقات الشباب العربي على القمم العربية، أو قمنا بعمل استقصاء رأي لهم، فسنعرف على الفور إلى أي مدى من "السقوط" وصلت إليه الأمور.

إنَّ إسناد المنصب لمصري مثل مصطفى مدبولي يعني ببساطة مواصلة سياسة "الترضية" عبر مكافأة مسؤولين لم يحققوا أي نجاح يُذكَر، ونقل نموذج الإدارة المصرية المتدهورة إلى مؤسسة إقليمية في حالة مأساوية يُرثى لها.

ولمن يرغب في معرفة "إنجازات" رئيس الوزراء المصري (المرشح للإقالة)، فليراجع التصنيفات والمؤشرات العالمية: أين موقع مصر في التعليم، والرعاية الصحية، والدخل، وبين نسب الفقر والبطالة، وبحجم الديون الخارجية والداخلية المتزايدة، ومستويات الفساد، وسيادة القانون... وغيرها. وكل ذلك هو "حصاد مرّ" للوزارتين اللتين كانتا تحت قيادته، وهنا كما يُقال "في فمي ماء".

في جانب آخر، كانت هناك أصوات سعودية عاقلة تتحدث بمنطق ووجاهة في الطرح، وتُرشّح وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودي عادل الجبير، بخلفيته الأكاديمية والدبلوماسية، وتحدثه عدة لغات بطلاقة، كما يتمتع برؤية استراتيجية وله سجل مشهود في العلاقات الدولية، فضلًا عن كونه مثقفًا من العيار الثقيل.

ترشيحه ليس مسألة محاصصة، بل فرصة حقيقية لإصلاح فعلي في بنية الجامعة. نقل مقر الجامعة إلى الرياض مع تولي شخصية كفؤة مثل الجبير لن يكون انقلابًا على التاريخ، بل بداية جديدة. المملكة، بثقلها السياسي والاقتصادي وتألقها الحالي وحضورها الدولي المتميز، تملك قدرة حقيقية على بث الروح في هذا الكيان، وإعادة الجامعة إلى مكانتها كلاعب إقليمي. لم تعد القاهرة وحدها تمثل صوت العرب، ولا يمكن حصر الجامعة في بيروقراطية تقليدية تجاوزها الزمن.

لقد آن الأوان لكسر احتكار المنصب، ولفتح الجامعة أمام كفاءات من مختلف الدول. لا يمكن أن تستمر هذه المؤسسة العربية في شكلها الحالي: هامشية، رمزية، بلا قرارات ملزمة، ولا رؤية موحدة.

الجامعة تحتاج إلى دم جديد، وقيادة جديدة، ومقر جديد، لإنقاذها من موتها السريري قبل أن يصبح حالة دائمة بلا أمل في الإفاقة.

وأنا أنهي مقالي، تحضرني عبارة العظيم ألبرت أينشتاين: "الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مرارًا وتكرارًا وتتوقع نتائج مختلفة". وهذا للأسف هو ما نفعله منذ عقود… ولا نزال ننتظر نتيجةً أخرى.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.