في حديقةٍ صغيرة، حيث البيت الطيني يبتسم بتواضعه لأشعة الشمس الدافئة، يجلسان هناك.. رجل وامرأة، كأنهما قصيدة حب كتبها الزمن على جسدين أنهكهما العمر، لكنهما ظلا يحملان في قلوبهما نضارة الربيع.
السفرة البسيطة بينهما ليست أكثر من "طبلية" خشبية، وصحنين من الفخار، وخبزٍ رقيق يذكر بأيام الزمن الجميل.
حولهما، تتدلى أغصان العنب كستائر من ذهبٍ أخضر، تتهادى مع النسيم العليل، وكأنها تهمس لهم بأسرار الأرض. الجو كله ينضح بالسلام، كأنما الطبيعة نفسها توقفت لتشهد هذه اللحظة.. لحظة حبٍ نقيٍ اختزل كل تعقيدات الحياة في بساطة لا تُشرى بالمال.
هكذا هي الحياة، كلما ساد الحب تكتسي بالبساطة وتتوج بالسعادة .
نظر إليها وهو يمرر يديه المتجعدتين فوق صحن الزيتون، كأنه يلمس ذكريات عمرٍ كامل. ابتسمت له، فظهرت تجاعيد وجهها كخريطةٍ رسمتها الضحكات والدموع سوياً. لم يحتاجا إلى كلام، فصمتُهما كان أغنيةً يعرفان ألحانها عن ظهر قلب. سنواتٌ طويلة علّقاها على حبل غسيل الحياة، همومٌ جفت تحت شمس الصبر، وأحلامٌ صغيرة ظلت ترفرف كالملابس البيضاء في الفناء.
لم يكونا يملكان قصوراً ولا متاعاً فاخراً، لكنهما امتلكا السرّ الأكبر: لغة حبٍ صامتة، تعلّق عليها هموم الدنيا فتصير خفيفة.
كل نظرة بينهما كانت كفيلة بأن تذكرهما بأن السعادة ليست في كمّ الأشياء، بل في كيفيتها. في دفء يد تمسك أخرى حين يصبح العظم ضعيفاً، وفي ضحكةٍ تُسمع خلف باب المطبخ كل صباح، رغم آلام الظهر والأيام العجاف.
الحب هو الذي حوّل طبلية الطعام إلى مائدة ملوك، والمقعد الخشبي إلى عرش.
كانا يعرفان أن الدنيا تمرّ كسحابة صيف، لكن جذورهما التي تشابكت في تربة الإخلاص جعلت العاصفات لا تقوى عليهما. حتى العنب المتدلي فوق رأسهما كان يشهد بأن الحب، مثل الكرمة، يحتاج إلى صبرٍ طويل كي تثمر أغصانه حُلواً.
وها هما الآن، في خريف العمر، يجلسان تحت ظلّ كرمةٍ زرعاها بأيديهما منذ زمن. لا شيء في العالم يسعدهما أكثر من صحنٍ من زيتون، وخبزٍ يابس، وقلبين يعرفان أن البساطة هي الإكسير الحقيقي للغنى.
فما قيمة الذهب إن لم تجد يداً حانية تمسك بك عندما تشيب؟
في النهاية، لم يكن "حبل الغسيل" مجرد مشهدٍ عابر، بل كان رمزاً لحياةٍ كاملة.. حياة علّقا عليها تعب الأيام، فجاءت الرياح لتنشفها، تاركةً فقط رائحة الصابون البريء، وبياض القلوب النقية.
هكذا يكون الحب حين يصير فلسفة حياة.. بساطةٌ تذوب فيها كل التعقيدات، ورضىً يجعل من التفاصيل الصغيرة أعياداً لا تُنسى.
#نافذة
ع البساطة البساطة و يا عيني ع البساطة
و قديش مستحلية أعيش جنبك يا أبو الداراويش
تغديني جبنة و زيتونة و تعشيني باطاطة