: آخر تحديث

حوار ثقافي يُكرّس الجهل!

4
4
3

في زمنٍ يُنادي بالمعرفة ويتغنّى بالثقافة، تتجلّى مفارقة صارخة: أن تتحوّل الأدوات التي كان يُفترض أن تعزّز الوعي، وتقرّب المسافة بين النص والقارئ، إلى وسائط تكرّس الجهل، وتُفرغ المفاهيم من محتواها، وتحوّل الثقافة من مسار معرفيّ عميق إلى عرض سطحيّ يلمع على الشاشات.

لقد بات مألوفاً أن تطالعنا منصات التواصل الاجتماعي، بشكل شبه يومي، بإعلانات ملوّنة لندوات أدبية، تُقام عبر تطبيقات رقمية مثل "زوم"، وتحمل عناوين مغرية من قبيل: "نقاش مفتوح حول رواية راهنة"، "حوار مع مثقفين حول السرد المعاصر"، أو "قراءة تفاعلية في نص إبداعي". عناوين تفيض بالحيوية وتوحي بالجدّة، تدعو القارئ إلى الإقبال والإنصات، لكنها، في معظم الأحيان، تخفي وراءها مشهداً من التسطّح المؤلم، والادعاء البائس، والتسويق الثقافي الذي لا يختلف كثيراً عن الإعلان التجاري.

إنّ هذه اللقاءات، في جوهرها، لا تُقيم وزناً لحقيقة النص الأدبي، ولا تتعامل مع الرواية أو القصة بوصفها عملاً مركباً ينطوي على رؤى جمالية وفكرية وتاريخية تستحق الفحص والتمحيص، بل يُنظر إليها كذريعة لممارسة نوع من "النشاط الثقافي"، الذي لا يُطلب فيه إنجاز ولا يُشترط فيه تحصيل.

نحن أمام "ثقافة واجهة"، تُزيَّن فيها الندوة بالكلمات البراقة، وتُسوَّق الجلسة بمشاركة أسماء تُقدَّم على أنها "نقاد"، أو "مفكرون"، أو "روائيون"، دون أن يُبذل أي جهد في التدقيق بمدى صلتهم الحقيقية بالمجال المعرفي الذي يتصدّرونه. هكذا، يتحول الحوار إلى مسرح استعراضي، لا يختلف كثيراً عن العروض الإعلامية التي تتوسل الحضور الجماهيري بأي ثمن.

كم من مرةٍ حضرت فيها ندوة عنوانها يوحي بجدية بالغة، ثم وجدت نفسك حبيس دائرة من المجاملات السطحية، والتعليقات الإنشائية التي لا تختلف عن دردشة في مقهى؟ تُسمَع عبارات من قبيل: "الرواية مدهشة"، "اللغة ساحرة"، "الشخصيات حيّة"، دون أن يُرفَق ذلك بأي تحليل جمالي أو تقني يُبيّن أين تكمن الدهشة أو ما وجه السحر في اللغة أو الحيوية في الشخصيات.

ويبلغ العبث مداه حين يُتجاهل النص تماماً، وتتحول الجلسة إلى نقاش فضفاض عن "أهمية القراءة"، أو "أثر الرواية في النهوض بالمجتمع"، وكأننا أمام تكرار لأحاديث مدرسية نمطية لا تمتّ إلى خصوصية النص أو تعقيداته بصلة. إن ما يُمارس هنا ليس نقداً، بل نميمة ثقافية، تجري بلغة الأدب وتلبس لباس الفكر، لكنها لا تنتج عنهما شيئاً يُذكر.

التحوّل الرقمي أتاح للجميع فرصة الظهور، وهذه نعمة حين تُوظّف في اتجاهات صحيحة. لكنّها، حين تُترك دون معايير، تتحوّل إلى بيئة خصبة لصعود "المثقف الافتراضي"، ذاك الذي يملك حضوراً رقمياً طاغياً، لكنه يفتقر إلى الحد الأدنى من الأدوات المعرفية. هذا "المثقف" الجديد لا يُقاس بعلمه، بل بعدد متابعيه، ولا يُحتكم إليه بصفته قارئاً، بل لأنه يُجيد التحدّث.

تراه يُنصّب نفسه ناقداً بلا قراءة، أو يُقدّم "رأيه" في أعمال لم يُكملها، أو لم يقرأها أصلاً، ويُدير الحوارات بأسلوب أشبه بإدارة دردشة على تطبيق ترفيهي لا يتجاوز الاهتمام فيه حدود المجاملة. هنا، لا أحد يُسائل، ولا أحد يُدقّق، لأن الساحة الرقمية تفتقر – للأسف – إلى آليات الفرز، ولأن المنصات لا تُقيم اعتباراً إلا لحجم التفاعل، لا لمستواه.

تكمن خطورة هذه الظاهرة في أنها تُسهم في تزييف الوعي. فهي لا تكتفي بأن تُقصي المعرفة الحقيقية، بل تُزيّن البديل الزائف، وتُقدمه في هيئة شرعية. يصبح الجهل مُقنّعاً بلغة مثقفة، ويُمنَح الجاهلُ سلطة التأثير، وتُغيَّب المساحات الجادة لصالح من يجيدون اللعب على الحبال الرائجة.

في هذا المناخ، يضيع القارئ غير المتخصص بين الأصوات. من يُقدَّم إليه ليس بالضرورة من يستحق أن يُسمَع، ومن يُمنَح سلطة التوجيه قد لا يملك من الرؤية ما يكفي لتوجيه نفسه. وفي غياب المؤسسات الثقافية القوية التي تملك أدوات التمحيص والتقويم، يتحول المشهد إلى ساحة فوضى ناعمة، لا ضجيج فيها، لكن خرابها عميق.

من الضروري أن نعيد فتح سؤال الثقافة: لمن؟ وكيف؟ ولماذا؟

هل المطلوب أن نخلق مناخاً يشبه برامج "التوك شو" الثقافي، حيث تحضر الرواية كذريعة للحضور لا كموضوع للنقاش؟

أم أن الوقت قد حان لنستعيد قيمة النص، وقدسيّة القراءة، وهيبة النقد، وهيبة المثقف الحقيقي الذي يُنصت قبل أن يَتكلم، ويقرأ قبل أن يُحلّل، ويشكّ قبل أن يُبشّر؟

الحوار الأدبي، كما ينبغي أن يكون، ليس فعلاً ترفيهياً ولا مناسبة اجتماعية. إنه فضاء جاد، تتلاقى فيه العقول، وتتصارع فيه الأفكار، ويتعرّض فيه النص لا للتمجيد أو الإدانة السطحية، بل للتفكيك والفهم والتأويل. وهو يتطلّب حضوراً نوعياً لا كمّياً، ويحتاج إلى محاورة المتخصصين أكثر من دغدغة مشاعر المتابعين.

إنَّنا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى فضاءات نقدية حقيقية، تُعيد الاعتبار إلى الكلمة، وتُخضع النصوص لقراءات صارمة ومخلصة، لا هدفها التنقيص، بل الفَهم. نحتاج إلى إعلام ثقافي لا يتردّد في قول الحقيقة، ولا يَخشى من خفض البريق الزائف ليُبرز الضوء الحقيقي.

نحتاج إلى أن نعترف أنّ الثقافة ليست ملعباً مفتوحاً للجميع، بل مساحة منضبطة بقواعد العقل والمعرفة. النقد ليس ترفاً، بل ضرورة، والمثقف ليس نجماً، بل مسؤولاً. والقراءة، حين تكون فعلاً جاداً، تتحول من استهلاك إلى مشاركة، من استيعاب إلى مساءلة.

في زمن الصورة والظهور، تظلّ المعركة الكبرى للثقافة معركة صامتة: معركة العُمق ضد الضجيج، المعرفة ضد الادعاء، الكلمة الأصيلة ضد التكرار الجوفاء. إنها معركة لا تُخاض بالسيوف، بل بالكتب. لا تُربَح بالتصفيق، بل بالصبر.

ولذلك، علينا أن نسأل أنفسنا، كلّ مرة نشارك فيها في "نقاش":

هل نحن نُنصت للنص؟

أم نُحاول أن نُبرز أنفسنا على حسابه؟

حين نجيب بصدق، نكون قد بدأنا، ولو بخطوة، في استعادة المعنى.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.