: آخر تحديث

موريتانيا وإعادة التموضع الروسي في الساحل وتمدد "القاعدة"

7
4
4

تتفاقم الأزمة الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي، فبعد سنوات من الصراع الدموي في مالي، تبدو المجموعات الإسلامية المسلحة اليوم أقرب إلى العاصمة باماكو أكثر من أي وقت مضى. وقد كثّفت هذه الجماعات هجماتها خلال الأسابيع الأخيرة، وركّزت على محاور استراتيجية.

وفيما ينشط تنظيم "القاعدة" في غرب وجنوب غرب مالي بهدف قطع الطرق الحيوية التي تربط هذا البلد الحبيس بموانئ موريتانيا والسنغال، عزز تنظيم "داعش" تموقعه في المثلث الحدودي مع النيجر وبوركينا فاسو، مستهدفًا مناجم الذهب، وخطوط الإمداد، والطرق المؤدية إلى باماكو، ونقاط التفتيش والثكنات العسكرية. كما شنّ التنظيم هجمات في جنوب النيجر استهدفت حقول النفط وخطوط الأنابيب التي تنقله إلى ميناء "كوتونو" في جمهورية بنين (غرب أفريقيا) ضمن استثمارات صينية ضخمة تُقدّر بمليارات الدولارات.

ويُعرقل تفجير "داعش" للحدود المشتركة بين دول الساحل بهذا الشكل، وفي ظل الفوضى، قيام أي تحالف عسكري حقيقي بين المستعمرات الفرنسية السابقة، والتي استبدلت الوجود العسكري الفرنسي بتعاون وثيق مع روسيا واستدعاء مرتزقة "فاغنر".

في المقابل، تتركز هجمات وعمليات كتيبة "ماسينا" في وسط البلاد، ،  وهي كتيبة تابعة لجماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" المتطرفة ، حيث قطعت أوصال مالي، وعملت على فصل الجنوب عن الوسط والغرب، وتطويق العاصمة. وتظهر هذه التحركات كأهداف جيوسياسية واضحة. 

عمليا ، أصبحت مالي دولة فاشلة ممزقة تواجه خطر السقوط والانهيار، ولم يعد شبح التقسيم مقتصرًا على الشمال، حيث كانت تتركز أقليتان من الطوارق والقبائل العربية قبل نزوح غالبية السكان لشرق موريتانيا وجنوب الجزائر بسبب مجازر فاغنر وانتشار العنف .

وخلال هجوم كبير الأسبوع الماضي، دمّرت جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" قاعدة استراتيجية على طريق حيوي نحو الجنوب، كانت تُعدّ الحاجز الأخير الذي يفصل بين المتطرفين والعاصمة باماكو .
وبينما يقود مقاتلو "القاعدة" هجمات الجماعة في الشمال والغرب، تدفع "نصرة الإسلام والمسلمين" بـ"كتيبة ماسينا" إلى الواجهة، وتبدو اليوم الأكثر حضورًا ونشاطًا في الوسط والمحاور الجديدة لجبهات القتال الضارية في الجنوب.

قبائل "الفلان"حاضنة اجتماعية لحكم "ماسينا"؟
ويسود الاعتقاد داخل الجماعة الأصولية العنيفة أن قبائل "الفلان" الإفريقية ستوفر حاضنة اجتماعية لحكم "ماسينا"، بعد المجازر التي تعرّضت لها هذه القبائل على يد "فاغنر" والجيش المالي. وتُعدّ "كتيبة ماسينا" من أبرز التشكيلات القتالية المنضوية تحت لواء جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، التابعة لتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي". 

تأسست الحركة في يناير 2015 بقيادة الداعية الفلاني أمادو كوفا، ويقال إنه يطمح لإحياء "إمبراطورية ماسينا الإسلامية" التي أسسها في القرن التاسع عشر الأمير شيخو آمادو باري؛ "ما يمنح الكتيبة بُعدًا رمزيًا يوحي بإحياء كيان إسلامي مفقود في قلب غرب إفريقيا" .

ومنذ انتشارها في مالي، ركّزت "فاغنر" في البداية عملياتها في وسط البلاد للقضاء على مقاتلي "كوفا"، مقابل عشرة ملايين يورو شهريا يدفعها المجلس العسكري الذي استولى على السلطة بالقوة في صيف 2020، بموجب اتفاق مع زعماء المرتزقة وقع عليه في جمهورية إفريقيا الوسطى .

وعندما عجز الانقلابيون عن تسديد فواتير "فاغنر" بسبب إفلاس الخزينة تحت وطأة العقوبات الاقتصادية والمالية الإقليمية والدولية، جلب الروس عشرات الجيولوجيين ومعدات تنقيب متطورة عن الذهب، إضافة إلى شاحنات لنقله من المناجم إلى قاعدتهم في مطار باماكو . 

وتتهم تقارير غربية روسيا بالتخطيط لنهب ثروات دول غرب إفريقيا الغنية بالمعادن النفيسة، بما فيها "الليثيوم" الذي يُستخدم في صناعة الرقائق الإلكترونية، أحد عناوين الحرب التجارية بين الولايات المتحدة و الصين .

وفي تطور لافت، أعلنت مالي أخيرا عن إطلاق مشروع استراتيجي لإنشاء أول مصفاة وطنية لتكرير الذهب بطاقة إنتاجية تُقدّر بـ200 طن سنويًا، بالشراكة مع مجموعة "يادران" الروسية. وقالت الحكومة العسكرية المنبوذة دوليًا، إن المشروع يهدف إلى "تنويع الشركاء وتوسيع الخيارات الاستراتيجية لتمكين الدولة من التحكم بشكل أكبر في إدارة واستغلال ثرواتها المعدنية".

ووصفت تقارير غربية خروج "فاغنر" بـ"الانسحاب الرمزي"، مؤكدة أن معظم مقاتليها في الساحل الإفريقي تم دمجهم في "فيلق إفريقيا" بهدف توسيع الدور الروسي في القارة ضمن إطار قانوني ورسمي.

وبالتزامن أيضا مع إعلان فاغنر خروجها من مالي قلصت تركيا حليفة روسيا في الساحل الإفريقي؛ صادراتها العسكرية إلى مالي لأن المجلس العسكري الحاكم لم يعد قادرا على دفع فواتير الصواريخ المُحمّلة على الطائرات المسيّرة.


موريتانيا أمام مفترق الطرق
إن التحديات الإقليمية والاستقطاب الدولي الحاد في غرب إفريقيا يضع موريتانيا أمام خيارات استراتيجية صعبة، في وقت تكافح فيه بشق الأنفس للبقاء بمنأى عن الفوضى الدموية التي تشهدها دول الساحل، حيث تسيطر الجماعات المتطرفة على أجزاء واسعة من أراضيها.

ومع تقدّم مقاتلي "القاعدة" وحلفائها نحو باماكو، تبدو جميع السيناريوهات سيئة بالنسبة للموريتانيين. فـانهيار السلطة المركزية في مالي يعني قيام "دولة الخلافة" على حدود تمتد لمئات الكيلومترات، 
ما ستضطر معه  نواكشوط إلى استبدال جار صعب المراس ومثير للقلق والمشاكل مثل عسكر مالي، بسلطة يشارك فيها تنظيم "القاعدة"، وفوضى دموية عارمة على الحدود.

وإذا ما نشرت روسيا قرب حدود موريتانيا المزيد من جنود "فيلق إفريقيا" لملء الفراغ الأمني والعسكري بعد انسحاب مرتزقة "فاغنر" ووحدات النخبة في الجيش المالي، فإن ذلك سيؤدي إلى تعزيز نفوذ روسيا في المنطقة، وإطالة عمر الطغمة العسكرية وتخبّطها. وستجد نواكشوط نفسها أمام ضغط هائل، في مواجهة استراتيجية روسية خبيثة وخطيرة للغاية كما يحذر الموفدون الأميركيون والأوروبيون لموريتانيا دوما .

وفق هذا المنظور، تشكل موريتانيا حاجزًا يجب كسره بين الوجود العسكري الروسي في دول الساحل الحبيسة وشواطئ الأطلسي. وليس سرًا رغبة الروس في الوصول إلى موانئ في المياه الدافئة، والربط بينها وبين قواعدهم في حوض المتوسط، والسيطرة على الشريط الممتد من "دارفور" غرب "السودان" إلى جنوب غرب "موريتانيا"، حيث توجد حقول الغاز الواعدة التي تطورها وشرعت في تصدير شحنات منها مجموعة "BP" البريطانية وشركاء أميركيون  وأستراليون.

موريتانيا .. ورقة في صراع الجبابرة
يهدف التمدد الروسي، في رأي خبراء، إلى تحويل موريتانيا- بتواطؤ صيني وتركي- إلى مجرد ورقة ضغط تستخدمها موسكو في صراعها مع الأتحاد الأوروبي. 

إن الوصول إلى شواطئ بلد دُعي إلى قمة الناتو، ويُعتبر في العقيدة الأمنية والعسكرية الإسبانية جزءًا من الحدود الجنوبية للحلف، سيكون تطورًا بالغ الأهمية في مسار إعادة التموضع الروسي في المنطقة. كما سيمنح روسيا القدرة على التحكم في ملفي الهجرة غير النظامية والغاز الإفريقي، لممارسة ضغط على دول مثل إسبانيا و فرنسا وإيطاليا وألمانيا، التي تُبدي اهتمامًا متزايدًا بمصادر الطاقة الهائلة في موريتانيا، بما في ذلك الطاقات المتجددة، والمشروع الاستراتيجي لنقل الغاز من نيجيريا إلى المغرب عبر أنابيب تمر بالسواحل الموريتانية.

وقد كثّفت موريتانيا خلال العام الجاري تعاونها مع دول الاتحاد الأوروبي، خصوصًا إسبانيا، لمواجهة مشكلة الهجرة. ومنعت عشرات الآلاف من مواطني دول إفريقيا جنوب الصحراء من عبور المحيط الأطلسي نحو جزر الكناري الإسبانية.

وتتحدث تقارير عن تورط شبكات مرتبطة بروسيا في موجات الهجرة الأخيرة. وعززت موريتانيا إجراءاتها الأمنية على الحدود، كما استقبلت مهاجرين أفارقة أُبعدوا من إسبانيا قبل ترحيلهم إلى بلدانهم، بموجب اتفاق مثير للجدل أبرمته مع الحكومة الإسبانية لمواجهة معضلة الهجرة .


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.